تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)
قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] أي: هل يوجد فيهم من يقول: إن هذه الرسالة افتراها محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن كتبه هو وأتى به من عند نفسه.
ولقوة دليل القرآن وبراهينه يعيد قول الكافرين ليقضي عليه بالحجة والبرهان، وليزيف هذه الأقاويل، ويميز الحق من الباطل، وليعلم المؤمن أنه مؤمن عن دليل وبرهان، وعن حق ومنطق بما يقبله العقل أولاً، وليس إيمانه عن هراء أو استسلام لا دليل له ولا برهان، لم يكن ذلك أبداً، فكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ يحملان المنطق الساطع، عقلاً ونقلاً وبياناً، ولا ينكر ذلك إلا أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر.
فأهل الكفر والإلحاد في الماضي والحاضر قالوا كل ذلك، قالوا: سحر، وقالوا: افتراه، وقالوا: ﴿أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤]، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] أي: صباحاً ومساءً.
كل هذه الأضاليل التي نسمعها اليوم من كتبة العصر؛ شيوعيين وماسونيين واشتراكيين وقاديانيين وجميع ملل الكفر كلهم حمقى رضوا بهذا الكفر دون دليل ولا برهان، واستمسكوا به استمساك البليد الجاهل بلا علم ولا منطق، وكرروه صباحاً ومساءً، وهو وصف للضعاف من الشباب، والضعاف من الكهول الذاهبة عقولهم وأديانهم، قالوا: هذه أشياء تقدمية، وأشياء تجددية، ونحن لا نعيش في الماضي المتخلف الذي مضى عليه ألف وأربعمائة عام.
نقول لهم: وبماذا أتيتم أنتم؟ أتيتم بكفر قوم نوح الذي مضى عليه آلاف السنين.
من قلدتم واتبعتم؟ أي بصيرة سلكتم؟ أي نقل من الكتب السابقة اتبعتم؟ اتبعتم كفرة اليونان والروم والفرس، فيزيدون كفراً وعناداً.
فقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ [الأحقاف: ٨]، افتراه: كذبه، ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الأحقاف: ٨].
أي: قل لهم يا محمد: إن أنا كذبته وافتريته على الله، فإنكم لا تملكون لي من الله شيئاً إن أراد تعذيبي وعقابي، وما بالكم أنتم أفأفتري على ربي من أجلكم؟ وهذا من الضلال البين، فإن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تواترت واستفاضت أجيالاً بعدها أجيال، وقروناً بعدها قرون على أنها كانت بينة وواضحة، عرفت قبل النبوءة بأربعين عاماً بالصدق والأمانة واليقين والغيرة والشفقة والشجاعة، فهل الذي لا يكذب على مخلوق مدة أربعين عاماً يكذب على ربه أو يكذب عليكم بعد سن الأربعين؟! وأيضاً جاءكم بالكتاب المبين وبالأدلة عليه، وبالدلائل القاطعة والمعجزات التي لم يأت بها أحد قبله، ولن يأتي بها أحد بعده.
أبعد كل هذا يأتي من يقول بعد ألف وأربعمائة عام: أن هذا القرآن صنعه محمد وأصحابه؟ وأكبر معجزة لنا نحن في هذا العصر ومن سبقنا ومن يأتي بعدنا: قول الله عن كتابه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، غيرت التوراة وهي كتاب الله، وحرفت الإنجيل وهي كتاب الله، وبدلت الزبور وهي كتاب الله، والقرآن على كثرة أعدائه في كل عصر وفي كل زمان ومن كل ملة ومن كل شعب لم يستطع أحد أن يزيد فيه آية أو ينقص آية، أو يغير تنظيماً لها أو ترتيباً، فهم أعجز من أن يفعلوا ذلك، وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك في عصور مختلفة فما عادوا إلا بالخزي والذل والهوان، ومن يتأل على الله يقصمه الله.
ويقول تعالى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٨]، هو ربنا أعلم بما تخوضون فيه من الكذب والضلال والباطل والقول الغث، مما لا يقبله منطق، ولا يخضع له عقل، ومنه الإفاضة أي: أفاضوا واندفعوا.
وهكذا هؤلاء اندفع بعضهم خلف بعض كاندفاع الحمر الشاردة، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويفيضون بالكذب، ويخوضون في الباطل، ويقولون: هذا افتراء، والرسالة كذب، والقرآن كذب، وحاشى الله من ذلك، وحاشى كتابه ونبيه.
قال تعالى: ﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: ٨].
أي: يكفي إن لم تقبلوا أي شهادة على صدقي أن يكون الله شهيداً بيني وبينكم، يشهد كذبكم ويشهد فجوركم، ويحضر سماعه جل جلاله، وهو يشهد عليكم بما أنتم فيه من باطل، ويشهد بصدقي وأمانتي وبصدق رسالتي، وبصدق تبليغي لكتاب ربي.
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الأحقاف: ٨]، والله جل جلاله رحمةً بنا يخاطب أعداءه الجاحدين الكافرين والمبهتين لأنبيائه، يجرهم إليه، ويدعوهم إليه، ويطمعهم في مغفرته ورحمته، فهو الغفور إن تبتم عن هذه الأقاويل الكاذبة والأقاويل الباطلة، وهو الرحيم بكم إن تبتم فلا يعذبكم ولا يدخلكم النار، ولا يحاسبكم بما مضى من ذنوب قبل التوبة والإنابة، وهو الغفور للمؤمنين والرحيم بهم، وباب الإيمان مفتوح على مصراعيه، فكل من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله فتحت له أبواب المغفرة والرحمة، فيدخل من أيها شاء، تعالى ربنا وجل سبقت رحمته غضبه، وأرسل نبيه رحمة للعالمين.