تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)
قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩].
قل يا محمد: ما كنت بدعاً من الرسل، لم هذا العجب؟ ولم هذه الضجة الكبيرة؟ ولم هذا الكذب الذي تفيضون فيه، تارة تقولون: سحر، وتارة ساحر، وتارة كذب، وتارة كاذب، وتارة مريض، وتارة يريد نساءً، يريد ويريد، لم كل هذا؟ فقوله: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] أي: لست أول رسول جاء إلى الأرض، لم التعجب والاستغراب؟ كلكم سمعتم أن هناك أنبياء كثيرين سبقوني، قالوا ما قلت، ونزل عليهم ما نزل علي، ودعوا شعوبهم كما دعوتكم، ومع ذلك لم يقل الناس كلهم لهم: أنتم سحرة، أنتم كذبة، أنتم مفترون، بل آمن من آمن، وكفر من كفر، وما كانوا جميعاً على وتيرة واحدة.
ولا تنسوا أن السورة مكية، ولا يزال المسلمون قلة مضطهدين، بين قتيل وشريد وطريد.
فقوله: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] البدع: الأول، والبدع: المبتدع، والشيء الذي لم يكن له سابقة، فالنبي ﷺ لم يكن أول نبي في الأرض، بل هو آخر الأنبياء، سبقه ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً رسولاً، وسبقه الآلاف من أنبياء الله، ممن أوحي إليهم بشرع ولم يؤمروا بتبليغه، فلم العجب؟ ولم هذا الضجيج؟ ولم هذه الزوبعة في غير مكانها؟ لم يكن بينه وبين آخر من سبقه من الرسل أكثر من ٦٣٠ عاماً.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩]، هذه الفقرة الكريمة من هذه الآية العظيمة ظل فيها أقوام، فقد زعم قوم من المفسرين أنه عندما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فرح لذلك الوثنيون وأهل الكتاب من اليهود فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل الذي يعترف بأنه لا يعلم ما سيجري له، فضلاً عن غيره، ويقول لنا: سيكون لكم ويكون لكم، وهنا يعترف بأنه لا يعلم ما سيجري له.
وهذا النقل ليس بصحيح، إذ إن الآية ليست بهذا المعنى، والقرآن يفسر، ولكل علم أصول، وأصول القرآن أن تفسر الآية بالآية، فإن لم نجد فسرت الآية بالحديث الصحيح، فإن لم يوجد فبإجماع الصحابة، فإن لم يوجد إجماع فبما دلت عليه قواعد اللغة العربية نحواً ولغةً وبلاغةً وبياناً، ومن خرج عن هذه القواعد الأربع ضل وأضل، وأتى بالباطل والزور من القول، وكان تفسيره كما يفسر اليهود توراتهم والنصارى إنجيلهم فبدلوا وحرفوا وغيروا، ومن هؤلاء تقريباً جميع مفسري هذه العصور المتأخرة، إلا أفراداً معدودين، فمن الشيوعيين من زعموا أنهم أسلموا، فرأوا بهذه الطريقة أنهم يستطيعون التخريب، فنشروا الرسائل، وأذاعوا في الأجهزة المسموعة والمقروءة والمنظورة أفكاراً لا يقول بها حيوان، ويجدون أحياناً آذاناً صاغية وعقولاً واعية، ولكن الله لا يضل إلا من كتب عليه الضلالة يوم وضع جنيناً في بطن أمه.
فمعنى قوله: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] المعنى بسيط وواضح، فمن الأنبياء من قتل، ومنهم من طرد، ومنهم من لم يؤمن به إلا الواحد والاثنان، وأممهم منهم من شردوا، ومنهم من أغرقوا، ومنهم من صعقوا، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من جعل الله أرضهم عاليها سافلها، وأنا الآن أدعوكم، وأحرص على هدايتكم وتبليغكم، وأنتم تحرصون على عصياني والكفر بي، ولا أدري النتيجة والنهاية، هل سأقتل؟ هل سأخرج من بلدي؟ هل سينزل الله عليكم صاعقة لا تذر كبيراً ولا صغيراً؟ فالكلام متعلق بهذا المعنى.
ثم أيضاًً لو أعلمه الله -وقد أعلمه- فهو ليس علماً ذاتياً، فالنبي بذاته لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما في الغد.
ومن أدب النبي أن يقول ذلك، وما علمه النبي ﷺ من الله لم يكن ذاتياً، بل هو من تعليم الله له ومن إكرام الله له، ولنستعرض حياة رسول الله، وما قاله رسول الله، وما قاله القرآن، فسنجد أن المعنى في هذه الفقرة لا يتجاوز هذه المعاني الدنيوية، هل سيقتل؟ هل سيخرج؟ وهذا ما قاله الحسن البصري رحمه الله.
قال تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى﴾ [الأحقاف: ٩]، أي: لا أتبع إلا ما يوحى إلي، لست بدعاً من الرسل، ولا أضع رسالة ولا شرعاً، ولا آتي بقرآن، ولكن الذي أوحي إليَّ فأنا أشرعه ممتثلاً له، شأني شأن من سبقني من آبائي الأنبياء.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: ٩] أي: لست إلا نذيراً من قبل الله، مخوفاً للكافرين، مهدداً لهم، متوعداً إياهم على خلافهم وخروجهم عن أمر الله وطاعته.
أقول يا قوم: آمنوا بالله، وإلا فالنار تنتظركم، وغضب الله قريب منكم، فخذوا العبرة من الأمم السابقة.