تفسير قوله تعالى: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)
ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وفي سنن النسائي عن أبي النضر عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه قال: (ما رأيت أحداً على وجه الأرض بشره النبي ﷺ بالجنة إلا ما كان من عبد الله بن سلام، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠]).
ويقول عبد الله بن سلام بسند صحيح في مستدرك الحاكم: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنت به، وشهدت شهادة الحق، وقلت: لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
وكان عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود وربانيهم، وبعد أن أسلم ابن سلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أخفني في مكان وادع اليهود واسألهم عني، ثم قل لهم بعد ذلك وقد أسلمت، واسمع ماذا سيقولون)، ففعل ذلك ﷺ وسألهم، وقد دعاهم لمجلسه: (ماذا ترون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وقال لهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا بهم بهتوه، وعادوا عن قولة الحق بقولة الباطل، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وكذبوه، وشتموه).
وهكذا عادة اليهود، فهم قوم بهت.
يقول عبد الله بن سلام: وفيَّ نزل قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ [الأحقاف: ١٠]، فكانت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى عبد الله بن سلام صحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحبر من أحبار بني إسرائيل الذين اهتدوا، وكان قد آمن عندما شهد بشهادة الحق بصدق القرآن وبصدق رسول الله ﷺ ورسالته.
فيا من أشركتم بالله وكفرتم بهذا الكتاب ولم تؤمنوا بالرسول المنزل عليه، إذا كان حقاً وقد كفرتم به فكيف سيكون حالكم يوم القيامة؟ كيف تكفرون به وقد شهد شاهد من أحبار بني إسرائيل على صدق هذا الكتاب، فآمن به وصدقه، وبقيتم أنتم مستكبرين عن شهادة الحق، وقصة إسلام عبد الله بن سلام وشهادته بالحق رويناها عن عوف بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، بل وعن عبد الله بن سلام نفسه، كما في الصحاح والسنن ومستدرك الحاكم.
وزعم قوم أن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام مدني، والنبي لم يكن قد هاجر بعد إلى المدينة المنورة، وعبد الله بن سلام لم يكن بعد قد أسلم.
هكذا قال قوم وزعموا أن المقصود بقوله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠]، هو موسى بن عمران، (على مثله) أي: من قومه بني إسرائيل.
أي: وشهد شاهد قبلكم بشهادة الحق، فآمن بالقرآن حسب نعت الله له في التوراة المنزلة عليه، فآمن به كتاباً من عند الله، وآمن بمحمد رسولاً من عنده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا كلام حق في نفسه، ولكن أن يكون بياناً وتفسيراً للآية ففيه جزاف وتكلف، كيف والحديث الذي رويناه عن مالك بن أنس أخرجه البخاري في الصحيح وأخرجه مسلم في الصحيح، وأخرجه الحاكم في الصحيح، وأخرجه النسائي في الجامع، ورويناه عن جماعة من الصحابة: عبد الله بن سلام نفسه، وسعد بن أبي وقاص، وعوف بن مالك، وعبد الله بن عباس كذلك.
صحيح أن السورة مكية، ولكن كان من عادة رسول الله ﷺ في ترتيب القرآن وتنظيمه أنه يقول للصحابة بأمر الله: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا، وهذه الآية في سورة كذا)، وكثير من السور مدنية وفيها آيات مكية، وهناك سور مكية فيها آيات مدنية، وهذا لا عجب فيه ولا غرابة، وقد صرح بهذا النص سلف من الصحابة والتابعين، فهذه الآية مدنية ضمت في سورة مكية بأمر من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسياق الآية وبيانها يؤكد هذا الذي رويناه عن الصحاح والسنن، وعن جماعة من الصحابة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٠]، من فعل هذا بنفسه فقد اعتدى عليها وظلمها بالشرك والكفر والنفاق، وليس بعد هذا الظلم ظلم.