تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)
قال تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف: ١٧].
هذه آية العققة والكفرة الذين عصوا ربهم.
ولهذه الآية أسباب، وقديماً قال علماء الأصول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد قالوا عن آية البررة، ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١٥] أنها نزلت في أبي بكر الصديق وانفرد بها من بين الأصحاب، إذ آمن أبواه كلاهما، وأسلم أولاده جميعاً، واستجاب الله له فيهم، وكان من البر إليهم والإحسان إليهم ما أصبح المثل المضروب فيه بين الأولاد البررة.
ولكن هذا -وإن كان سبباً- فالآية تعم كل بار بوالديه، وكل من أطاع وأناب وأحسن إليهما.
أما النوع الآخر: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ [الأحقاف: ١٧]، هذا العاق قال لأبويه: (أف لكما) لم؟ عندما دعواه إلى الله وإلى الإيمان به، وهما يصرخان في وجهه، ويستغيثان الله له بأن يتوب عليه، وأن يعيده إلى الإيمان والبر بهما، ومن العقوق أن يقول لهما: (أف لكما) وأف: كلمة تضجر وتضايق، كأنه يقول: ضقت بكما، وتضجرت في وجوهكما، وإن صحب ذلك صوتاً مرتفعاً سيكون أكثر في العقوق وأقبح في المعصية والكبيرة.
قال: ﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ [الأحقاف: ١٧] أي: أتجعلان لي موعداً وعهداً بأن أخرج لهذا الوجود بعد الموت وأحيا مرة ثانية؟ ﴿وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾ [الأحقاف: ١٧] أي: ولم نر أحداً منهم، ولم يعش أحد منهم، وأخذ يقول لأبويه: أين هؤلاء؟ أين كبار قريش وزعماؤها؟ أين ذوو الرأي فيها؟ أين فلان؟ وأين فلان؟ وقد مضت عليهم قرون، والقرون: جمع قرن، فإنما تقولان شيئاً لا يعقل.
قال تعالى: ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ﴾ [الأحقاف: ١٧]، الواو واو الحال، أي: وهما يستغيثان الله أن يصلحه وأن يعيده للإيمان، ويناديان في وجهه: ويلك آمن، أي: سيصيبك الويل إن بقيت كذلك، والويل وادٍ في جهنم.
قال تعالى: ﴿فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف: ١٧]، ما وعدتموني به من حياة بعد الموت وأن هناك إيماناً، وهناك داراً ثانية أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، أي: خرافة وقصة لا معنى لها من قصص الأولين.
وزعموا أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأنه هو الذي دعاه والده ودعته أمه إلى الإيمان بالله، وهو يصرخ في وجههما، وهذا قول لا أساس له من الصحة، قال تعالى: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [الأحقاف: ١٧]، وعد الله بأن الدار الآخرة قائمة، وأن يوم البعث آت، وآن الآخرة لا شك فيها ولا ريب، فيجيب ويقول: ﴿مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأحقاف: ١٧] أي: خرافات حفظتموها ونقلتموها عن القرون الخالية وعن الآباء الماضية.


الصفحة التالية
Icon