تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأحقاف: ٢٦] أخبر ربنا عن قوم عاد هؤلاء الذين أذلهم وعاقبهم وشردهم ودمرهم: أنهم لم يكونوا قوماً عاديين، بل كانوا شيئاً لم يبلغه أحد منكم ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] فما موصولة، والمعنى: ولقد مكناهم في الذي لم نمكنكم فيه، أي: مكناهم بالقوة وبالسلطان وبالجاه، وإلى اليوم لا نزال نجد في حفريات حضرموت وحفريات الشحر وفي نواحي اليمن ووديانها وتلالها وجبالها آثار حضارة هؤلاء، فقد كانوا يبنون القصور في السهول وكانوا ينحتون الجبال بيوتاً وقصوراً، وهذه القصور موجودة عندنا في المغرب ودخلتها ونزلت فيها وأقمت فيها أسابيع، ولها خصائص عجيبة، ففي وقت الشتاء تكون دافئة؛ لأن فيها مدافئ، وفي وقت الصيف تكون باردة؛ لأن فيها مكيفات وأدوات تهوية، وكان هؤلاء هم أول من اخترع ذلك وصنعه؛ ولذا فإن في مكة كثيراً ما كانوا يأتون إلى الجبال فينحتون منها القصور والبيوت يتحصنون فيها من أعدائهم.
وكذلك بلاد اليمن باردة شديدة البرد أيام الشتاء، شديدة الحرارة في أيام الصيف، فسكناهم في قصور الجبال المنحوتة، ومن هنا يخبر الله أنه رزقهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، سمعاً يستفيدون منه، وبصراً يستفيدون منه، وقلوباً يعون بها ويدركون، إلا ما كان من الإيمان بالله ككفرة هذا العصر.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أي: مكناهم في أشياء لم نمكن لكم فيها، فقد كان طول الرجل منهم يتجاوز الأربعة والخمسة أمتار والمرأة قريبة من ذلك في عرض مناسب وتقاطيع مناسبة، وكانوا في غاية الجمال والبهاء والقوة والأيد، فقد كان الرجل منهم يمكنه أن يقتلع شجرة أو أن يلوي حديداً، لكن هذه القوة وما رزقوا من الوعي ومن التبصير والفهم اتخذوه لدنياهم كما اتخذه أهل هذا العصر، إذ لم يستفيدوا من اختراعاتهم ولا من حضارتهم إلا الكفر بالله والشرك به وارتكاب المعاصي بكل أنواعها مما لا يكاد يخطر على بال أهل الجاهلية الأولى؛ لذلك فإن الله حقّر الجاهلية، وأمر النساء بقوله: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣] وقد علّق ابن عباس مفسّراً فقال: ما ذكر الله الجاهلية الأولى حتى كانت هناك جاهلية ثانية، ونحن نعيشها اليوم، وهي أقبح من الجاهلية الأولى، إذ لم يذكر التاريخ أن الأب كان يسمح لابنته أن تخرج عارية في الشوارع ويعرضها للزوار وتختلي بهم إلا في هذا العصر، ولم يذكر التاريخ جاهلياً عربياً ولا أعجمياً يجعل زوجته تخرج عارية فيطوف الغير بها ويختلي بها ويراقصها، وهم مع ذلك رؤساء دول وزعماء فقدوا العلم والدين والشرف والرجولة، وبذلك فهذا العصر عصر جاهلية ثانية لو رآها أهل الجاهلية الأولى لاستعاذوا بالله منها ومن أهلها.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أي: خلق الله لهم سمعاً مفيداً وبصراً مفيداً وأفئدة واعية مدركة، واستفادوا من هذه الأشياء الثلاثة السمع والبصر والفؤاد في شئون دنياهم.
وقال ربنا: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أي: لم ينتفعوا بهذا السمع في شئون الآخرة وفي شئون الدين والحياة الأخرى، والسبب كما قال تعالى: ﴿إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أي: يكفرون بقدرة الله وبالأدلة القاطعة الواضحة على وحدانيته وقدرته وإرادته.
فبسبب كفرهم ومعصيتهم وخروجهم عن أمر الله سلّط الله عليهم الريح العقيم، قال تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: ٢٥] وكانت الغاية والنتيجة: ﴿فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥] ذهب الإنس وذهب الوحش والطير، وخلت الديار من ساكنيها ولم يبق إلا النسر والغراب ينعق ولا مجيب لها من ساكن.
والله ذكر ذلك إنذاراً لنا ولأمثالنا ممن سبقنا وممن عاصرنا وممن يأتي بعدنا؛ ولذلك ضرب المثل فقال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٥] أي: وكما فعلنا بقوم عاد نفعل بكل قوم مجرمين مشركين عصاة خارجين عن أمر الله: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأحقاف: ٢٦] وهكذا شأن الكفر الجديد، وليس كفراً جديداً، بل هو كفر قديم ورجعي وكفر أثري تاريخي، وكل ما تقوله الشيوعية اليوم والاشتراكية والماسونية والبهائية والوجودية وجميع ملل الكفر حتى الكتابية من اليهود والنصارى إنما عادوا به للكفر القديم، وقد قصه الله علينا في كتابه عن قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم إبراهيم وقوم موسى وهارون وقوم عيسى، والأمم التي مضت وخلت، فالله أتى بذكرها ليضرب بها الأمثال، ويجعل منها الأشكال، حتى إذا فعل فعلهم من فعل من المؤمنين من أتباع محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم عوقب عقابهم ودُّمِّر دمارهم.


الصفحة التالية
Icon