تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ١٠].
سبب نزول السورة هو معاهدة الحديبية والصد القرشي المكي لرسول الله والمؤمنين عن العمرة في تلك السنة، ثم بعد ذلك أرسلوا رسلاً وهم: مكرز وحليس وعروة بن مسعود الثقفي وسهيل بن عمرو، وقبل وصول سهيل لم تتم الأمور، فأخذ بدوره عليه الصلاة والسلام يرسل رسله إليهم، فأرسل عثمان يقول لهم: إن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يأت مقاتلاً ولا محارباً، وإنما أتى والسيوف في أغمادها، ولن نناجزكم حرباً ما لم تناجزونا، وما دعوتموني لصلة رحم ولا إلى احترام المقدسات والحرمات إلا استجبت لكم.
فوصل عثمان رضي الله عنه فحماه وأجاره أبان بن سعيد بن العاص، وبلّغ الرسالة لقادة قريش، فقالوا له: طف بالبيت إن شئت، قال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمسكوه فشاع في الجيش النبوي أن عثمان قد قُتل، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقيم تحت شجرة سمرة عند الحديبية، ويقول لقومه وقد جمّعهم حوله وحلّقهم عليه: إن كان هذا حقاً فسنناجز قريش الحرب والقتال، فتعالوا بايعوني.
فتقدم إليه (١٤٠٠) وقيل (١٣٠٠) وقيل (١٥٠٠) ولكن الذي في الصحيح وأكّدته رواية الصحابة أنهم (١٤٠٠) فبايعوه، قال البعض: بايعناه على الموت، وقال البعض: بايعناه على ألا نفر، والمؤدى واحد، فإذا بايعوه على عدم الفرار فسيبقون في المعركة ولا يفرون إلى أن يقتلوا أو يُهزموا أو ينتصروا، وإذا عاهدوا على الموت فسيبقون في المعركة ما لم يموتوا أو ينتصروا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) فالتفت الأصحاب يبحثون عن صاحب الجمل الأحمر فوجدوا رجلاً في مؤخرة القوم، فذهبوا إليه وقالوا له: ويلك تقدّم إلى رسول الله فبايعه، قال: لا حاجة لي في بيعة، فقد فر جملي وأنا أبحث عنه، قالوا له: ويحك تقدّم بايع، فقال: لا حاجة لي في بيعة، فلم يكن منهم وإنما أُلحق بهم يبحث عن جمله الضائع منه، ولذلك قال لهم النبي: (كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر) فهذا الذي دخل فيهم ليس مؤمناً.
ولما جاءت البيعة باسم عثمان مد رسول الله يده وبايع نفسه وضرب بيده على يده الثانية، وقال: (هذه عن عثمان، اللهم إنه ذهب في طاعتك ورسالة رسولك)، وما فعل رسول الله ذلك إلا وقد اطمئن على أن عثمان لم يُقتل، ولو علم أنه قُتل لم يبايع له، فإنه لا يُبايع عن مقتول، وفي هذه البيعة إشادة له ورفع لمقامه.
قال الله لمحمد وصحبه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] أي: هؤلاء الذين بايعوك ووضعوا يدهم على يدك إنما بايعوا الله، ويد الله على أيديهم، وكقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠] فبيعة رسول الله هي بيعة لله، وطاعة رسول الله هي طاعة لله، ويده المبايعة نائبة عن الله، وهم في الحقيقة قد بايعوا الله على أن يموتوا في سبيله، وعلى ألا يفروا من الزحف؛ إعلاء لكلمة الله، وطاعة لرسوله المرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] أي: يد النبي ﷺ هي يد الله النائبة عن يده؛ لأن البيعة في حقيقتها كانت بيعة لله وطاعة لله وامتثال لأمر الله.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ عن الحجر الأسود: (سيأتي يوم القيامة وله عينان ينظر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على من لامسه بالحق، ومن لامسه فكأنما بايع الله) فهذا الحجر يشهد لله يوم القيامة ويُعطيه الله عينين يُبصر بهما من مسحه ومن التمسه ومن قبّله، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن لامسه فكأنما بايع الله).