تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)
قال الله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: ١١].
نقول: عربي، أي: حضري من العرب، ونقول: أعرابي، أي: بدوي من بلاد العرب، فالأعراب هم البدو، والعرب حضر الجزيرة، وأما في زماننا فقد تحضرت البلاد الناطقة بالعربية مشرقاً ومغرباً.
وقد ذكرنا في سبب نزول السورة بأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما دعا قومه المهاجرين والأنصار للخروج معه، وأرسل إلى القبائل المحيطة بالمدينة ومدن الحجاز يدعوهم للذهاب معه للعمرة بمكة، حضر من كان مخلص الإيمان، وتأخر من كان منافقاً في إيمانه.
وهؤلاء المخلفون الذين تركوا أنفسهم خلف ووراء ولم يحضروا مع رسول الله هذا الفتح العظيم، وهذه المعاهدة الفاتحة المعززة المؤزرة الموقرة، فقال الله لنبيه ذلك قبل أن يلتقي بهم وقبل أن يصل إليهم، ونزلت سورة الفتح في الطريق إلى المدينة قبل وصوله ﷺ إليها، قال الله لنبيه: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ [الفتح: ١١] أي: عندما تؤنبهم وتوبخهم وتعتب عليهم: لِمَ لمْ تخرجوا معي عندما أمرتكم؟ فسيقول لك هؤلاء المخلفون الذين خلفوا أجراً وديناً وحضوراً عن بركة هذا الفتح العظيم.
كنا في شغل في مزارعنا، وتجارتنا، فلم نجد من يخلفنا على الأهل والأولاد والزراعة والتجارة، فاستغفر لنا تخلفنا وسامحنا على عدم حضورنا، فهذا الذي منعنا عنك وخلفنا وراءك.
يقول الله لنبيه قبل أن يجيبوه، وقبل أن يلتقي بهم، وقبل أن يصلوا إليه: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ١١].
يقول الله جل جلاله عنهم: هم منافقون، تقول الألسنة - جمع لسان - ما لا يعتقدونه في القلوب - جمع قلب -، فقالوا لك شيئاً وأبطنوا سواه، وأظهروا ما لم يكن حقيقة وأبطنوا الحقيقة، فلم يكن لهم عذر في هذا التخلف لا من مال ولا من زراعة ولا من تجارة.
هؤلاء الذين تخلفوا قالوا: ليس محمد وصحبه إلا أكلة رأس، أي: قلة قليلة يكفيهم رأس للطعام، ومعناه: أنهم ذهبوا لقريش في عقر دارها، ولهم قيادة العرب وقوة ومناعة وغنى وحضارة، فذهب إليهم بهذا العدد القليل وهم هالكون ومستأصلون وميتون لا محالة، ونحن لا نريد أن نموت معهم، ولا أن نقضي على أنفسنا.
ولذلك ذكر الله ذلك لنبيه ﷺ وكشف عن دخائل هؤلاء المنافقين: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ [الفتح: ١١] أي: لو أراد الله بكم ضرراً فسيلحقكم هذا الضرر وهذا الهلاك وأنتم على فرشكم، وفي عقر داركم، حضرتم أو غبتم، ولو أراد بكم خيراً فسيصلكم وأنتم داخل المعركة والسيوف تصلصل والخيول تصهل، ولن يضركم ذلك شيئاً، ولكنكم نافقتم وأردتم لرسول الله ﷺ الهلاك، وحدثتكم أنفسكم بذلك، واشتهت نفوسكم ذلك، فأردتم أن تنجوا بأنفسكم وتبعدوها عن هذا الهلاك الذي ظننتموه وهيهات هيهات، فليست إلا أوهام خطرت في أنفسكم المريضة الضعيفة.
وقوله تعالى: ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الفتح: ١١]، فيا هؤلاء! إن اعتذاركم كذب، وطلبكم المغفرة من رسول الله ﷺ كذب، فلا يهمكم استغفار رسول الله ﷺ ولا عدم استغفاره، ولكن تخلفتم عن الحضور إلى الحديبية خوف الضرر والهلاك، وأنتم تظنون محمداً هالكاً هو ومن معه؛ لقلة عددهم، وهيهات هيهات! تلك الأماني الباطلة سيعود ضررها وبلاؤها عليكم، فالله خبير بقلوبكم وبظواهركم، وبما تكتمون وبما تعلنون، فلا تخفى على الله خافية.