تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)
قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: ٢٤]: النتيجة كانت بعد الكلام، وبعد إظهار المعجزتين: معجزة العصا، ومعجزة اليد، فأمره بالرسالة بعد ذلك وأعده لها، فقال له: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: ٢٤].
أي: اذهب إلى فرعون الذي طغى طغياناً، وتجبر جبروتاً، وظلم ظلماً، ونشر الفساد في الأرض، واستباح الأعراض، وسفك الدماء، واستقل بالأرزاق، وأذل الكرامات، هذا الذي حاول أن يشارك ربه في الأرض والسماء، اذهب إليه فأنت رسول الله، فادعه إلى الله ومره أن يعبد الله وحده، وأن يتوب عما صدر منه.
ولم يكتف بذلك جل جلاله، بل استجاب له بتزكيته وتأييده بأخيه هارون، قال: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: ٤٤].
فمع طغيان هذا الكافر، أمرهما أن يخاطباه بلين، ويخاطباه بيسر، فلا يغضبانه ولا يزعجانه؛ لعله يعود إلى الله، فليس القصد من الرسالة أن يذل ويخزى، فذاك ليس عمل الرسالة ولكنه عمل المرسل جل جلاله.
وأرسل له رسولين كريمين عظيمين حتى لا تكون لفرعون حجة على الله، ويقول: لم أدر ولم أسمع ولم أعلم، أدركت آبائي يدعون الألوهية فادعيتها كادعائهم.
قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: ٢٤].
وإذا بموسى يرى المهمة صعبة والعمل شاقاً، ويرى أنه أعجز من أن يقوم به؛ لأنه نشأ في دار فرعون كولد من أولاده، وعلى فراشه ترعرع، وبطعامه تغذى، وفي صغره وهو لا يزال رضيعاً جر لحيته إليه فأذله الله بذلك، فغضب فرعون وكاد أن يقتله.
ثم هو بعد ذلك قتل قبطياً من الأقباط انتصاراً لرجل من الإسرائيليين، وكان الأمر سراً ثم عرف وأعلن، وأرسل فرعون إلى موسى من يأتيه برأسه ويذبحه، ففر هارباً إلى أرض مدين فتعرف على ابنتي شعيب، وقد سقى لهما من البئر، فدعاه شعيب فأنكحه إحدى ابنتيه أجرة على رعاية الغنم عشر سنين، وفي هذه المدة الطويلة لم يأت مصر، لا لصلة رحمه بأمه، ولا لصلة رحمه بأخته.
وعندما كان رضيعاً في بيت فرعون أصيب بعاهة دائمة، فعندما لعب بلحية فرعون غضب وكاد أن يذبحه، وقال: هذا من أعدائي أبناء بني إسرائيل، فأخذت زوجته تقول له: هو طفل صغير لا يفقه، وإن أردت اختباره فأعطه جمرة وتمرة، فإن أخذ التمرة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فاتركه! فأخذ الجمرة ووضعها على لسانه فأحرقت لسانه فعقدته، فأصبح ألكن في الحديث يقول الكلمة ولا يتمها، فهو يقول: كيف أستطيع أن أفعل هذا ولساني لا يبين، ولفرعون معي حساب، فهو يريد أن يقتلني بالقبطي الذي قتلته، ولذلك طلب من ربه أن يعينه ويؤازره فقال: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ [طه: ٢٥ - ٢٦].
فكان موسى ضيق الصدر من هذا الطلب؛ لأنه خاف عواقبه، وخاف أن يعجز عن تبليغ هذه الرسالة إلى الطاغية الجبار فرعون، فطلب شرح الصدر؛ لتنشرح أعضاؤه وحواسه، ويشتغل بنفس قابلة راضية.