خلاف العلماء في بقاء حكم المن والفداء في القتال
وهذه الآية الكريمة اختلف المفسرون فيها: هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقال أبو حنيفة وطائفة معه في رواية عنه: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] قال: وهذه الآية التي في سورة التوبة مدنية نزلت عند حجة الوداع، ولذلك فالمشهور في مذهب أبي حنيفة: أنه لا أسر ولا من، وليس إلا القتل والقتال، فالأمر بالقتال واجب لإعلاء كلمة الله وسبيله، ومن أسر فليس له إلا القتل، وليس له من ولا استرقاق ولا فداء.
وقال الإمام مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وطوائف من أئمة الاجتهاد وأعلام الإسلام: إن الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأن الله أمر بالقتال والإثخان في القتل؛ حتى يكثر القتل في صفوف الأعداء، فتقتل القادة والزعماء والضباط، فلا يبقى إلا أتباع ورعاع لا يقودون جيشاً ولا يدبرون حرباً ولا يستطيعون إلا الامتثال لآمريهم، فهؤلاء ائسروهم وشدوا وثاق أسرهم، واربطوهم ربطاً محكماً بالحبال وبالسلاسل؛ حتى لا يفروا؛ وبعد ذلك الأمر لكم حسب مصلحتكم ومصلحة الإسلام والدولة الإسلامية والجيوش الإسلامية، فإما أن تمنوا على أسراهم فتطلقوا سراحهم بلا مقابل، وإما أن يكون ذلك مبادلة بأسرى آخرين، وإما أن تطلقوا سراحهم بالفداء من مال أو عمل أو مبادلة بأسرى لكم عندهم، ويبقى هذا مستمراً إلى أن تنتهي الحرب ويهزم العدو ويستسلم وينكس رايته ويخضع لسلطانكم وأمركم ونهيكم، وإذا لم يتم ذلك فلا ترفعوا السيف عن رقابهم ولا الأسر عن أسراهم.
هذا قول الجمهور، وهو ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام في حروبه، فقد أسر في غزوة بدر قبل أن يثخن في الحرب فعاتبه الله على ذلك، وهدد وأوعد الجيش الإسلامي إن هو عاد، ولولا كلمة من الله سبقت لكان الجيش الإسلامي في خبر كان، ولكان الإسلام وكأنه لم يكن، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٧ - ٦٨].
وهذه الآية نزلت في أسرى غزوة بدر، فقد انتصر ﷺ والأصحاب الكرام انتصاراً ساحقاً على أعدائهم وقتلوا وشردوا وأسروا، ولكنهم أخذوا كبار الجيش وقادة الحرب وزعماء المعركة أسرى، وكان عددهم اثنين وسبعين زعيماً، فأسرهم النبي عليه الصلاة والسلام وشد وثاقهم واستشار فيهم أصحابه، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! قومك، دعهم لعلهم يسلمون ويخرج من أصلابهم من يؤمن بك وينصرك وينصر دينك.
وقال عمر: يا رسول الله! اذكر صنع هؤلاء معك ومع المسلمين، شتموك وآذوك وأخرجوك، وتآمروا عليك، وقالوا عنك وقالوا، وأدموا عقبيك، وهجروك سنوات، وقتلوا من أصحابك وشردوا، وعذبوا وقتلوا، فأعط كل واحد منا قريبه يقتله؛ ليعلم الله أن ليس في قلوبنا محبة للمشركين.
وكان في الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن عمر يقول له: أعطني أخي أقتله أنا، واقتل أنت عمك العباس، ويقتل علي أخاه عقيلاً، وهكذا بقية القادة.
وقال عبد الله بن رواحة: هذا الوادي مر بأن يملأ حطباً ثم ألقهم فيه، فسكت النبي عنهم، ودخل عريشيه، وبعد ليلة أو أكثر عاد إليهم، فقال: ليؤد كل واحد من هؤلاء الأسرى فدية لنفسه، ومن لم يكن له هذا المال فلتؤد عنه عشيرته، ومن كان قارئاً فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
انظر هذا العلو والحضارة ونشر العلم في الإسلام، ففي في أول معركة انتصر فيها الإسلام هذا الانتصار، جعل النبي ﷺ من مواد الصلح أن يعلم كل واحد من قرائهم عشرة من الأميين من المسلمين، وهكذا كان.
وإذا بالآية الكريمة تنزل في اليوم الثالث، وهي قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ)) أي: لا ينبغي لنبي ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧] أي: لا يليق به أن يتخذ أسرى وهو لم يقتل بعد ويبالغ في القتل، ويستأصل القادة والزعماء؛ لأنه قد تكون معركة حدثت ويؤسر القادة، ثم سيطلق سراحهم ويعيدونها جذعة، ويتداركون الأخطاء الماضية، وتكون العاقبة على الجيش المسلم خطيرة؛ ولذلك هدد الله وأنذر، ثم امتن وتكرم فقال: ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ [الأنفال: ٦٨] أي: لولا أن الله سبق في علمه وفي كتابه المكنون أنه ناصر دينه ونبيه لأصاب هؤلاء عذاب عظيم، أي: لهزموا، ولأصبح الإسلام والرسالة المحمدية في خبر كان، وكأنها لم تكن.
والفائدة من الآية: أن ما مضى قد عفا الله عنه تكرمة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon