تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)
قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥].
هذه الآية الكريمة يصف الله فيها ما جعل في الجنة التي وعد بها المؤمنين الصادقين، الذين اتقوا الله في عقيدتهم وفي أعمالهم، فجعلوا بينهم وبين الحرام وقاية وحاجزاً وأطاعوا ربهم ونبيهم، وعملوا الصالحات مما أمروا به، واجتنبوا الفواحش ظاهرها وباطنها، وعاشوا وماتوا في سبيل الله.
فالجنة التي وعد الله هؤلاء وأمثالهم، أخذ الله يصفها بقوله: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد: ١٥] الحياة بلا ماء لا تكاد تؤنس ولا تسر ولا تقر العين.
والله يصف ما أكرم به المؤمنين في منازلهم الدائمة في جنات عدن فقال: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد: ١٥].
قوله: (غير آسن): أسن يأسن إذا تغير وأنتن، ففي الجنة مياه غير منتنة، ولا متغيرة، فليست كالماء الذي يركد في بقعة أو في آنية، وإذا به مع مرور الزمن والوقت يتغير وينتن ويستكره شرباً واستعمالاً، أما هذه الأنهار التي في الجنة فليست كذلك، بل هي في صفاء الدر، وفي برد الثلج، وفي لذة المياه التي تلذ شديد العطش في أرض حر.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد: ١٥].
أي: وفيها أنهار جارية من اللبن الذي لم يتغير طعمه، وعادة اللبن إذا مضت عليه فترة أنه يحمض ويتغير وينماع ويذهب دسمه، أما هذا فيبقى أبيض دسماً، غير متغير الطعم، بل هو من ألذ ما يشرب الإنسان ويتذوق.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ [محمد: ١٥].
أي: وفيها الأنهار من الخمر، والخمر الذي تسمى في الدنيا خمراً، لكن خمر الآخرة ليست كخمر الدنيا، فليس لها صداع ولا مرارة ولا قذارة، ولم تعجن بالرجل ولا اتسخت باليد، وليس فيها ما ينزف العرق والصحة ويشق على الإنسان، وإنما هي خمر لذة للشاربين، ومعنى: (لذة) أي: لذيذة بمعنى: أنها لذيذة للشارب، فلا يجد لها صداعاً، ولا ألماً، ولا مرارة، ولا وساخة ولا قذارة، بل هي من أصفى وألذ وأصح ما يكون.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥].
أي: وفيها الأنهار السائحة الجارية من عسل مصفى، لم تصفه نار، ولكن هكذا خلقه الله مصفى، ليس فيه قذارة، وليس فيه أرجل ولا أجنحة للنحل، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (في الجنة بحور: بحر من ماء، وبحر من خمر، وبحر من لبن، وبحر من عسل مصفى، وتجري من هذه البحار جداول وأنهار سائحة على أبواب قصور ومنازل سكان الجنة وأهلها).
ولبنها أيضاً لم يخرج من ضروع الأنعام، والعسل لم يخرج من بطون النحل، والخمر لم يخرج من شجر أو غيره، ولم يشعل ولم يستخدم بالأقدام، ولكن الله خلق ذلك في أرض الجنة لسكانها، كما خلق المياه والعسل، واللبن كذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ليست أنهار الجنة تجري في أخدود من الأرض، ولكنها سائحة حافتها جبال من لؤلؤ، وطينها المسك الأذفر)، وهذا من النوع الذي يقول عنه العلماء: لا مجال فيه للرأي، أي: لم يكن أنس ليقوله إلا إن سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام.