تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك)
قال ربنا جل جلاله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦] قوله: ((وَمِنْهُمْ)) أي: من أنواع الكفّار المنافقون الذين يظهرون الإيمان مظهراً ويخفون الكفر باطناً.
((مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)) أي: يحضر مجلسك، ويدخل مسجدك، ويسمع خطبك ومواعظك، وأوامرك ونواهيك، حتى إذا خرج من مجلسك وقد سمعك تشتم المنافقين وتذل الكافرين، وتذكر ما أعد الله لهم في الآخرة من عذاب ومحنة إن بقوا على ذلك ولم يتوبوا، أخذ يسأل أولي العلم: ماذا قال آنفاً؟ يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سألوا عبد الله بن مسعود كما قال عن نفسه، وسألوا عبد الله بن عباس كما قال عن نفسه، وسألوا غيرهما.
قوله: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ [محمد: ١٦] أي: ماذا قال رسول الله الآن؟ آنفاً: أي في الزمن الحاضر، وهو من الأنف، وأنف كل شيء أوله، ومنه الروض الأنف للإمام السهيلي الأندلسي.
﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ [محمد: ١٦] وهم يسألون سؤال المستهتر الذي لم يلق بالاً ولم يكن يهتم بما يقول رسول الله؛ لأنه ليس بمؤمن؛ بل منافق وكاذب، فهو عندما يخرج يكشف عن نفسه: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم تكشفه فلتات لسانه، ونظرات عينيه، وحركات شكله في وجهه ومقاطعه.
قال تعالى عن هؤلاء: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦].
أي: أولئك المنافقون المستهترون الذين تظاهروا بالإسلام كذباً ونفاقاً، وحضروا مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهتروا بها، ولم يعطوها أذناً صاغية، وعندما خرجوا أخذوا يتساءلون سؤال المستهتر غير المصدّق الكاذب المنافق؛ فقال الله عنهم: ((أُوْلَئِكَ)) أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات ((الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) أي: طبع الله عليها بأقفالها فلا يفقهون ولا يعون ولا يهتدون، زادوا ضلالاً على ضلال، وركبهم الجهل فوق الجهل، وأصبح جهلهم وكفرهم مركباً، هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم ونزواتهم وشهواتهم لم يتبعوا الله، ولم يؤمنوا برسول الله، ولم يطيعوا أمراً لا في كتاب ولا في سنة، أولئك عبدة الأهواء، أولئك الذين إلههم هواهم.
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فلا يعون ولا يفقهون، كانوا من الضلّال أزلاً، وكانوا من الكفار، حيث سجّلوا كذلك في اللوح المحفوظ.


الصفحة التالية
Icon