تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)
قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢].
أي: إن أنتم تركتم الجهاد والقتال، وإن أنتم أعرضتم وابتعدتم عنه ورفضتموه ولم تقوموا به عم الفساد في الأرض وقطعت الأرحام.
والفساد: هو نشر أنواع الفجور والفسوق، وسفك الدماء، واستحلال الأموال، وقطع كتاب الله، وقطع الطرق، وفقد الأمن ونشر الجوع.
وقطيعة الأرحام، أن يقطع المؤمن أرحام ذويه من أخ وابن عم وقريب وحمٍ، وهكذا ترك الناس الجهاد فابتلوا بهذه البلايا، وعم الفساد في الأرض من كل نوع، وقُطعت الأرحام في كل بلد، وعاد المؤمنون إلى جاهليتهم الأولى وكأنهم لم يقولوا يوماً: ربي الله، وكأنهم لم يعترفوا لله بالوحدانية ولا بمحمد ﷺ بالرسالة، وتركوا الجهاد، واشتغلوا ببعضهم، فساد منتشر، وقطيعة أرحام عامّة، وجرائم يمسك بعضها بكلابيب بعض، وكأنهم لم يكونوا مسلمين يوماً؛ هذا تفسير.
والتفسير الأقرب للمعنى والذي تدل عليه ظواهر الآية: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن وليتم الحكومات، وقمتم بالدول، وأصبحتم ولاة وحُكّاماً عوضاً عن أن تشتغلوا بالقتال وجهاد أعدائكم، وجهاد اليهود والنصارى والمنافقين، إن أنتم لم تفعلوا ذلك وأصبحتم حُكّاماً وولاة ودولاً: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) وأن تنشروا الفساد في الأرض، وتنشروا أنواع الخمور والزنا، وقطع الطريق وزوال الأمن، ونشر الجوع، وضياع الاقتصاد، وضياع المال، وقطيعة الأرحام، ألا يرحم أخ أخاً ولا يبر ولد أماً ولا أباً، ولا تبر أخت ولا خالة ولا أم ولا عمة ولا ذو رحم محرماً.
وهذا الذي أنذر الله قد كان؛ فقد ترك المسلمون الجهاد، وولوا الحكومات والولايات والدول، وتركوا العدو بجانبهم وعلى حدودهم يستبيح دماءهم وأعراضهم، ويذلهم، ويهدم عليهم دورهم ومبانيهم وقصورهم، ويستهتر بأحكامهم حتى أصبحت دماء المسلمين أهون دماء الناس في الأرض، دماء تراق في لبنان، ودماء تراق في فلسطين، ودماء تراق في بلاد العرب والمسلمين، ودماء تراق في الفلبين، ودماء تراق في الأفغان، ودماء تراق في إريتريا، ودماء تراق في الصحراء.
فدماء المسلمين قد استُبيحت وكأنها دماء كلب لا شأن لها ولا حرمة ولا مقال، وكل ذلك قد أنذرنا الله ولم نقم بالنذارة، ولم نهتم بذلك، واستهترنا بأمر الله وبما أوجب الله، فكان ما أنذرنا به.
ولم يكن هذا فقط اليوم، فقد كان في عصور مضت مختلفة، ولكن عندما يعود الناس لدينهم ولجهاد أعدائهم يتوب الله عليهم، ويعيدهم لعزهم وكرامتهم وشرفهم، فإن عادوا عاد الله إلى عقوبتهم كما في عصرنا هذا.
((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) أي: قد قارب ذلك، وهذا التقارب قد حدث وتم كما كان في النذارة الإلهية في عصور مختلفة، وفي عصرنا أشد وأنكى، فالمسلمون عددهم مليار من الناس ولكنهم غثاء كغثاء السيل؛ لحبهم الدنيا وكراهيتهم الموت.
((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) وها نحن أولاء نرى ما أنذر الله به منذ (١٤٠٠) عام كيف انتشر الفساد في البر والبحر! وكيف انتشرت قطيعة الأرحام في كل مكان! وقد قال عليه الصلاة والسلام في فساد هذا الزمن: إنه يقل العمل، ويكثر القول، وتتصاخب الألسن، وتتباغض القلوب، وأن يقطع كل ذي رحم رحمه، عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم) فعندما انتشر الفساد، وانتشرت القطيعة كان الجزاء من الله جزاءً وفاقاً، فعميت الأبصار ما عادت تُدرك ولا ترى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] وترى بهم صمماً وما فيهم من صمم، فلا يسمعون حكمة، ولا يستفيدون من آية، ولا يعملون بحديث، وإذا رأوا من ينفعهم ويقودهم للخير عميت عنه أبصارهم، وزادت بصائرهم طمساً وعمى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩].
والأرحام قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرحم تعلقت بالله وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة) أي: لقد قُطعت (فقال الله لها: قطع الله من قطعك، ووصل من وصلكِ).
وجاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! إن لي أرحاماً أُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأصلهم ويقطعونني، أأفعل مثلهم؟ قال: إذاً تُتركون كلكم) أي: يتخلى الله عن هؤلاء الذين سيتبادلون قطع الأرحام والفساد في عدم العناية بالرحم، وعدم إكرامها والعناية بها ومواصلتها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) فصلة الأرحام تُطيل الأعمار، وتُكثر الأرزاق.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ارحموا الرحم، فمن قطعها قطعه الله، ومن وصلها وصله الله.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن من إذا قطعته رحمه وصلها) أي: ليست صلة الأرحام على المكافأة، زرني لأزورك، وجاملني لأجاملك، فتلك مجازاة، ولكن صلة الأرحام أن تصل رحم من قطعك، وهي صلة أمر الله بها أن توصل، فهي عبادة لله في حد ذاتها، وما يتعلق بالأرحام يأتي بعد ذلك؛ ولذلك ربط الله جل جلاله بين الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام، وبين قيام الجهاد.
وتمنى المؤمنون على الله أن تنزل سورة ذكر فيها القتال، فلما نزلت إذا بالمنافقين ينفرون من ذلك وينظرون لرسول الله والمسلمين نظر المغشي عليه من الموت، الكاره للقتال والجهاد، وهكذا فروا من القتال إلى أن عم ذلك الأرض وطم، فكان الكفرة بالله المتظاهرون بالإسلام طائفة، وكان الأذلة الضعاف الفارين عن أمر الله والامتثال لرسول الله فئة ثانية، وكان التواكل والتخاذل من الفئة الأخرى الثالثة، وهكذا انتشر الفساد في الأرض شعوباً وحكومات بما أنذر الله وقال: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن أصبحتم ولاة وحُكاماً ومسئولين عن إدارة شعوب وإدارة دول لترككم الجهاد (أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم) وزيادة المبنى -كما تقول لغة العرب- تدل على زيادة المعنى، أي: تكون قطيعة الأرحام شاملة في كل بيت ومدينة، وفي كل شعب وإقليم من أرض المسلمين مشارق ومغارب، وكل ما أنذر الله به قد كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.