تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران)
قال الله جل جلاله: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ [طه: ٦٣].
لا نزال مع موسى وهارون في دعوتهما فرعون وملئه إلى الله وهم يصرون ويعاندون، ويأبى الله إلا أن ينصر الحق ويزهق الباطل.
فجمع فرعون سحرته في يوم اتفق فيه موسى وفرعون، وحضر السحرة ونظروا إلى رسولي الله ونبييه: موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فأخذوا يتناجون خفية بعد أن وعظهم موسى بألا يفتروا على الله الكذب، وأن المفتري الكذب على الله له الدمار والبوار، وله الخسارة في الدنيا والآخرة.
وإذا بهم يسرون النجوى قائلين: ما هذا الكلام من موسى بكلام ساحر مشعوذ، إن هو إلا كلام داعية لله، ولا يبعد أن يكون نبياً كما يقول.
أسروا ذلك عن فرعون وملئه.
ثم عادوا فقالوا ما قاله فرعون: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: ٦٣] أي: ما هذان الشخصان موسى وهارون إلا ساحران، أرادا بسحرهما أن يخرجا هؤلاء السحرة عما لهم من رزق وما لهم من مقام، وأن يخرجا فرعون وملأه عن ملكهم وسلطانهم وأرضهم، هكذا سول لهم الشيطان، وهكذا قص الله علينا مناجاتهم.
﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا﴾ [طه: ٦٣] فطريقة الإخراج تكون بالسحر والغلبة فيه.
﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ [طه: ٦٣] أي: الطريقة الفضلى، والدين الوثني الفاضل كما يتوهمون ويزعمون.
وقد قلنا إنه قرئ في أكثر القراءات السبع: (إنَّ هذان لساحران) على خلاف المعروف من قواعد النحو والعربية في أن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر.
وقد زعم قوم من الصحابة وغيرهم أن هذا لحن كتبه الكتاب ونقلوه باطناً عن عثمان، وأن ذلك كان كذلك، ولكنه وقد طلب في أن يلغيه فقال: لا يحلل حراماً، ولا يحرم حلالاً، فاتركوه كما هو.
وما أظن ذلك صحيحاً عن عثمان وعائشة كما نقل عنها هذا، وما أعتقد ذلك إلا خطأً تسرب ممن قال ذلك.
القرآن عليه تتخذ القواعد، ومن قواعد قبائل كثيرة من العرب قبائل خثعم وغيرها كانت تعطل عمل إن، وإنما تدخل للتأكيد فلا ترفع ولا تنصب.
وقد ورد بذلك النطق الفصيح لسيد العرب وفصيحهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ففي زوائد مسند أحمد عن ولده الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد: أن النبي ﷺ كثيراً ما كان يبتدئ خطبه بقوله: إن الحمدُ لله.
وفسروا ذلك بأن إن معناها: نعم، ليست للتأكيد، وبالتالي لا تعمل فيما تدخل عليه من الكلم لا نصباً ولا رفعاً.
وقد ورد أعرابي على عبد الله بن الزبير وهو إذ ذاك أمير المؤمنين في جميع بلاد المسلمين إلا الشام فطلب رفده وقد مدحه كما يفعل الشعراء، فلم يعطه ما كان يؤمله فقال له: لعن الله ناقة نقلتني إليك، قال له ابن الزبير: إن وصاحبها.
أي: نعم ولعن صاحب الناقة وراكبها كذلك.
قيل: إن هنا بمعنى نعم.
وفي ما قالوه هي بمعنى التأكيد لا نعم، وجاءت على لغة ولهجة الكثير من القبائل، ورووا في ذلك قول النجم: إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها قواعد النحو في غير هذه اللغة كان ينبغي أن تكون: إن أباها وأبا أبيها قد بلغا في المجد غايتيها ولكن إن والقائل بالحال، والقائل نطق بلغة فصيحة أكدها القرآن عندما نزلت به.
وفي معنى نعم أيضاً ورد قول الشاعر: بكرا العواذل بالحديـ ـث يلمنني وألومهن ويقلن لي شيب علا ك وقد كبرت فقلت إنه العواذل من عذله ولامه من الشابات لمنه لم يتغزل ويشبب بهن وقد شاب شعره وعلاه البياض وكبرت سنه، ولا يليق بمن كان هكذا أن يفعل مثل هذا، فأقر عندما قلن له هذا القول فقال: إنه أي: نعم.
وسواء فسرنا إن هنا بمعنى نعم أو بإن المؤكدة ولكنها لا تعمل، فالقرآن قد تواتر نزوله بإن في هذا المكان غير عاملة نصباً في اسم، ولا رفعاً في خبر، والقرآن هو الإمام المحتذى للغة العرب، وعلى أساس ما فيه نطق سيبويه وغير سيبويه من أئمة النحو.
ولا مجال لقائل أن يقول: أخطأ كاتب في الكتابة، فالله قد تعهد بحفظ القرآن نحواً ولغة ولفظاً ومعنى.
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وحافظون عامة في نحوه وبلاغته ولغته ولفظه ومعناه.
﴿قَالُوا﴾ [طه: ٦٣] أي: السحرة.
﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ [طه: ٦٣].
أي: يتخذا السحر والبراعة فيه طريقاً للاستيلاء على مصر وإخراج أهلها منها وترك دينهم الوثني وإحلال دين التوحيد، دين الحق إذ ذاك من موسى وهارون.
وكما تقول العرب في أمثالها: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
ثم أخذوا يتعاونون ويقولون: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ [طه: ٦٤] بعد أن قرروا مع أنفسهم وتناجوا في أنفسهم بالكيد، بالكذب، بالخزعبلات، بالسحر والشعوذة وقالوا لبعضهم: أجمعوا أي: اعزموا واحتموا أمركم، لا تترددوا ولا تتشككوا، ولا يصرفنكم ما سمعتم عن فرعون ودينه.
﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ [طه: ٦٤] ائتوا صفاً واحداً، رأياً واحداً، يداً واحدة، لا تختلفوا ففي الاختلاف الهزيمة والخسارة.
﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ [طه: ٦٤] وقالوا لبعضهم: قد أفلح وفاز وانتصر اليوم من استعلى، أي: من انتصر ونجح وغلب وقهر موسى وهارون، هكذا تناجوا، وهكذا تحدثوا، وهكذا سول لهم الشيطان.
ثم عادوا فقالوا: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ [طه: ٦٥] أخذوا يشرعون في السحر وعمله وعرضوا على موسى متأدبين أو متحدين، ولا يظهر إلا أنهم يتحدون، أما الأدب فلم يأت وقته ولا مجاله بعد.
﴿قَالُوا﴾ [طه: ٦٥] أي: السحرة، ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ [طه: ٦٥] أي: يلقون ما أتوا به من حبال وعصي وأعواد وآلات للسحر، ويلقي هو عصاه التي كانت المعجزة الأولى التي أتى بها فرعون فأفزعه وأرعبه ثم انتكس على عقبه وقال: هذا سحر، وبلادي عامرة بالسحرة.
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾ [طه: ٦٦] أي: فقال لهم موسى: بل كونوا الأول فيمن يلقي ويشرع في سحره وشعوذته وكيده.
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ [طه: ٦٦].
هنا حذف دل على السياق، وهو من الفصاحة في القرآن، ويأتي في لغة العرب كذلك، وقد قال ابن مالك في أرجوزته: وحذف ما يعلم جائز والتقدير: فألقوا الحبال والعصي فإذا بها تتحرك.
﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: ٦٦].
الحبال: جمع حبل، وهو معروف.
والعصي: جمع عصاً، وهي كذلك معروفة.
فكانوا قد أتوا بأحمال من الحبال وأحمال من العصي وهي أدوات سحرهم في يوم الزينة هذا، يوم نصر الله للحق في شخص موسى وهارون، وخذلانه الباطل في شخص فرعون وسحرته.
فألقوا وهم على مستوىً من الأرض وكان اليوم يوم عيد، وأتوا متزينين.


الصفحة التالية
Icon