تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو)
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: ٩٨].
ثم عاد موسى داعياً إلى الله مؤكداً دعوته لعبادة الله الواحد، وأنه هو ومن سبقه من الأنبياء ومن يأتي بعده كعيسى ونبينا عليهم جميعاً الصلاة والسلام؛ كلهم ما جاءوا إلا للدعوة إلى الله الواحد، فلا صنم ولا شريك لا من حي ولا من ميت، لا من ملك ولا إنسي ولا من جني، لا من صامت ولا متحرك، فالله الواحد هو المعبود الحق والإله الحق في الأولين والآخرين.
قوله: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ﴾ [طه: ٩٨] إنما: أداة حصر، أي: الألوهية والعبودية محصورة في الله الذي لا إله غيره، فلا ثاني له ولا شريك له لا في ذات ولا صفة ولا فعال.
﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: ٩٨]: علماً: منصوبة على التمييز، أي: وسع علمه كل شيء، وأحاط بعلم كل شيء، فلا تخفى عليه خافية لا في الضمائر ولا في النفوس، ولا في البر ولا في البحر، ما من غائبة إلا يعلمها، ما من ورقة تلقى في ليل أو نهار أو شرق أو غرب إلا وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وبهذا تكون قصة موسى قد انتهت هنا في سورة طه، وقد كررت في القرآن في أكثر من مناسبة، وعند كل مناسبة يؤخذ منها معنى جديد، وقد تساءل الناس قبلنا: ما حكمة الإلحاح على قصة موسى وقصة النصارى بما صنعوا لعيسى.
وما صنع معهم عيسى في القرآن؟ والأمر بين وواضح؛ فالأديان السابقة كلها انتهت بعد أن حرفت، ولم يبق آثار من وثنيات وعبوديات زائفة وباطلة تظهر في عبدة الفروج وعبدة القرود وعبدة البقر وعبدة الحيوانات، لكنهم لا يملكون كتاباً يقولون إنه من عند ربنا، انحرف أو لم ينحرف.
ولم يبق من ذلك إلا ديانة موسى وعيسى بعد أن حرفتا وبعد أن بدلتا، وبعد أن غيرتا، وبعد أن انتقلتا من عبادة الله الواحد إلى الوثنية وعبادة من دون الله، فالنصارى عبدوا ثلاثة: الله وعيسى ومريم.
واليهود عبدوا العجل مع الله، وعبدوا العزير مع الله، وزعموا أنهم جميعاً أبناء الله، فأعطوا لله صورة مخلوقة بشرية على حسب فساد عقولهم وفساد أديانهم، ولاقوا في حياتهم ولا يزالون يلاقون من عذاب الله ونكاله.
فالله جل جلاله قال ذلك في الكتاب المنزل على نبينا، والذي أمرنا وغيرنا من سكان الأرض منذ الدعوة المحمدية وإلى قيام الساعة أن نلتزم ما فيه، وأن نحلل حلاله، ونحرم حرامه.
فكان مما وعظنا به الله وأنذرنا، أن بشرنا وأنذرنا أنكم الآن على دين الحق، فإذا غيرتم أو بدلتم فمن بدل منكم عن علم كما بدل اليهود فستكون عقوبته في الدنيا عقوبة اليهود.
ومن بدل منكم عن جهل ولم يكلف نفسه علماً ولا تعلماً فسيعاقب عقوبة النصارى الذين ضلوا عن جهل.
وهكذا دواليك، ولكن مع هذا الوعظ الشديد والنذارة الشديدة والبشارة الدائمة ضل الكثيرون منا وجروا خلف اليهود، فاتبعوا ماركس ولينين وأمثالهما من اليهود، وإذا بالله الكريم يعاقبهم عقاب اليهود، بل ويسلط عليهم اليهود، وما تسليط اليهود علينا إلا لأننا خرجنا عن أمر الله وطاعته، وسعينا في أن نقتفي أثرهم، ونعبد العجل معهم، ونشرك شركهم، فكان ما ترون.
ولا أحد أصبر من الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سبحانه يرزقنا ويعطينا ومنا من يدعو مع الله إلهاً، ومنا من يظل ليله ونهاره على المعصية والكفر والشرك والردة، ولن يرفع الله عقوبته ولا عذابه ما لم نتب إليه ونعود إليه تائبين وله حامدين في أن يرفع عنا ما ابتلينا به.
وهكذا اليوم تجد الإنسان يزعم أنه متحضر، ومن تحضره في ما يزعمه ويعلنه أنه قَبِل الهوان والاستسلام، وقبل الكفران والبعد عن القرآن.
يقول موسى كما قال الله عنه: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: ٩٨].
أعطى عباده عقولاً يعقلون بها أنفسهم عن الباطل والفحشاء والسوء، ولكنه علم من سيفعل ذلك منهم ومن سيخالف ذلك، وهو العالم بكل شيء قبل أن يكون وبعد أن يكون، ولو لم يكن لو كان كيف سيكون.


الصفحة التالية
Icon