تفسير قوله تعالى: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً)
قال تعالى: ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ [طه: ١٠٠].
أي: من أعرض عن هذا الذكر فكذبه وتركه وراءه ظهرياً، وجعله في عرض الكلام وزائده، ولم يعتبره كلاماً من الله، ولم يعتبره كتاباً أنزل لتذكير الخلق ودعوتهم كلهم لعبادة الله الواحد، وإبعادهم عن الكفر والجحود والعصيان، فإنه يحمل يوم القيامة وزراً.
وقوله: ﴿مَنْ أَعْرَضَ﴾ [طه: ١٠٠]: أي: فهو كتاب أنزل على محمد سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ليكون الكتاب العام الشامل لجميع العوالم، لمن عاصره ﷺ ولمن أتى بعده وإلى يوم النفخ في الصور.
وعلى ذلك فمن بلغه كتاب الله المنزل على خاتم الأنبياء فلم يعمل به وأعرض عنه وتجنبه ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ [طه: ١٠٠].
والوزر: الذنب الثقيل الذي ينوء بحمله الإنسان ويثقل ظهره.
فمن أعرض عن القرآن وكفر به فإنه يأتي يوم القيامة ظالماً آثماً، حاملاً من الأوزار ثقيلها وعظيمها مما ينوء به حمله، ولا يكاد يطيقه زيادة في عذابه وآلامه.
وهذه الآية من الآي التي تعتبر دليلاً على أن القرآن كتاب الله للبشر كلهم، فهي كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، هكذا أمر ﷺ أن يصدع بالحق وأن يصدع بالإسلام من تلك البطاح المقدسة (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، وأن يبلغ من بلغه ممن يأتي بعده، وهكذا دواليك إلى يوم القيامة.
ومن هنا كما في الحديث المتواتر يقول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع).
وفي الحديث: (تسمعون مني ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم).
ومن هنا كان القرآن الكريم على خلاف الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين، فتلك كلف بحفظها ربانيوها وعلماؤها، ولكنهم عجزوا عن حفظها ورعايتها وبقائها سالمة من التحريف والتبديل.
أما القرآن الكريم فقد تعهد الله بحفظه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
ومن حفظه أن ألهم أبا بكر أن يقبل مشورة عمر في أن يجمع القرآن، كما ألهم عثمان أن يجمع ما جمع أيام أبي بكر في كتاب واحد ويحرق ما عداه مما خلط به بعض كتاب التفاسير والشروح والبيانات، وقد خاف عثمان وغيره من أصحاب رسول الله ﷺ من أن يختلط الأمر على من يأتي من المسلمين بعد، فيخلط ما ذكر شرحاً وبياناً مع الوحي، فيصبح القرآن كالتوراة والإنجيل، ولكن ذلك لا يتم؛ لأن الله الذي تعهد بحفظه، فجمعته الصدور، وكتب في السطور، وتلي في المحارب والمساجد والمعابد.
وهكذا توارثناه لفظاً لفظاً، وآية آية عن آبائنا عن أجدادنا عن أجدادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تلوناه وحفظناه عن شيوخنا وعن أساتذتنا عن مشايخهم متواتراً، مطبقاً على ما فيه حركة وسكنة وسور وآي، وبكل ما بين دفتيه.
قد يقرأ اليهودي من التوراة، ويقرأ النصراني من الإنجيل ممن يدعى أنهم علماؤهم فيبدل ويغير ويزيد وينقص، ولا يجد من يقول له أخطأت، ولكن كتاب الله إذا تلاه تال وسها عن كلمة وغلط في آية تجد الحاضرين جميعاً يصيحون في وجهه أن ليست التلاوة كذلك، وإنك قد أخطأت وغفلت وسهوت، دون حاجة للرجوع للمصاحف، على أن ما في المصاحف يؤيد كل ذلك ويزكيه ويعززه ويؤازره.
ومن هنا كان نص الكلام في كتاب الله هو هو، كما كان يتلوه ﷺ في بيت الله الحرام وفي مسجده النبوي، وحيثما انتقلت سفراً وحضراً، سلماً وحرباً.