تفسير قوله تعالى: (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن)
قال تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
الله جل جلاله ينزه نفسه، ويعلمنا أن نقدسه ونعظمه، ونعرف مقامه وجلاله، بعد أن ذكر كفر الكافرين ممن أشرك مع الله وعبد العجل، وعبد الحيوان، وعبد الملك، وعبد الجن، وعبد الإنس، وجعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقال الله بعد قصه لذلك: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [طه: ١١٤].
أي: تعالى عن شركهم، وتقدس عن كفرهم وجحودهم، فهو الملك الحق الذي لا ملك معه، وما الملك في الأرض إلا عارية تزول عما قريب، فالملوك جاءوا من التراب ويذهبون إلى التراب وكأنهم لم يكونوا، ولكن الله ملك الملوك الدائم الحق القيوم هو ملك الدنيا وملك الآخرة، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (أخنع الأسماء رجل تسمى ملك الملوك) أي: أذل الأسماء وأحقرها هذا العبد الذي يحاول أن يسمي نفسه باسم الله، فيكون ذليلاً في الدنيا، حقيراً في الآخرة معذباً.
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [طه: ١١٤]: هو جل جلاله الحق في ذاته، والحق في صفاته، والحق في أفعاله، والحق جل جلاله في أسمائه الحسنى، وما أتى به الحق، وما تكلم به الحق، فالنار حق، والجنة حق، وعذاب القبر حق، والعرض على الله حق، ولذلك كان من أسماء الله الحسنى الحق، فيتسمى العبد باسم: عبد الحق.
قوله: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤]: فقد كان عليه الصلاة والسلام عندما ينزل عليه جبريل بآية أو آيات يسابق جبريل فيتلو تلك الآية معه، كما قال الله: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦].
فكان يعجل عليه الصلاة والسلام حرصاً منه على عدم نسيان آية من الآيات، وحرصاً منه على حفظها منذ نزول الوحي عليه من جبريل عن الله، فقول الله: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾ [طه: ١١٤]، معناه: لا تعجل بتلاوته حال نزول الوحي عليك.
فالله جل جلاله نهاه عن ذلك، وتكفل وتعهد بأن ما يريد جمعه عليه الصلاة والسلام من القرآن وعدم نسيانه وتفلته وحفظه ووعيه أن مهمة ذلك على الله، أي: دع الأذن تسمع، ودع الحواس مع الوحي وقت نزوله، ولا تعد ذلك ولا تكرره إلا بعد أن ينتهي جبريل من بلاغك ما أمر بتبليغه، وفي هذه الحالة تعهد الله لك بجمعه في صدرك، وبقراءته من لسانك ليجمعه غيرك من أتباعك من المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، وليحفظوه وليقرءوه، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤].
أي: الوحي الذي أوحى الله إليك بواسطة جبريل عليه وعلى نبينا السلام.
قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
ومعنى ذلك: أن العبد لا يستغني عن طلب العلم مدة حياته، فقد كان نبينا أعلم الخلق على الإطلاق ملائكة ونبيين، إنساً وجناً، ومع ذلك لا يزال في حاجة إلى التعلم فيطلب ربه أن يقول له: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
وهكذا كان، فلقد روي في الأحاديث المستفيضة المتواترة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي متتابعاً إلى وفاته، وهو يعي ويحفظ ويزداد علماً، وفي سنن الترمذي وابن ماجة ومسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو الله ويقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما لم أعلم، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار)، فكان يقول هذا امتثالاً لأمر ربه عندما قال له: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام محتاجاً إلى أن يطلب المزيد من العلم إلى ساعة وفاته فكيف بنا نحن، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم من المهد إلى اللحد)، أي: لا نهاية لطلب العلم، بل الإنسان وهو عالم، وهو مؤلف، وهو كاتب، وهو خطيب يزداد بذلك علماً لم يطلبه ولم يتعلمه ساعة الطلب، فهو في كل يوم في جديد من المطالعة والفهم والاستنباط، وجديد من المذاكرة، وهكذا إلى لقاء الله، وليس للعلم حدود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يعلمه ربه، وقد أمره بأن لا يعجل في قراءة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه؛ علمه أن يقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤].
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام كل يوم في مزيد، بل كل ساعة في مزيد من العلم، ولذلك نحن نجد السنة النبوية في المدينة المنورة كانت أوسع وأشمل وأعم؛ لأن الوحي تتابع إلى المدينة وكثر وقوي فضم إلى علم مكة.


الصفحة التالية
Icon