تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً)
قال الله عزت قدرته: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣].
لا نزال مع أبينا الأعلى آدم وأمنا الأولى حواء وقد صنعا ما صنعا من أكل الشجرة المحرمة، ثم استغفرا ربهما فغفر لهما، ثم أرسل آدم بعد ذلك نبياً رسولاً إلى سلالته وإلى زوجته، ولكن مع ذلك أخرجهما من الجنة كما أخرج إبليس الذي كان مقامه بين الملائكة، ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: ١٢٣].
وقول الله: ﴿اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: ١٢٣]، معناه: انزلا من الجنة إلى الأرض، والأمر لآدم وإبليس بدليل قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [طه: ١٢٣]، فكان الجن أعدل للإنسان، وكان الإنسان عدواً للجن.
ونزول آدم يلزم منه نزول زوجته معه فهي داخلة في الهبوط معه، ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: ١٢٣].
وهناك يحصل أحياناً خلاف لا ينبغي أن يذكر؛ لأنه لا معنى له وليس إلا من هذيان الجهلة والمتلاعبين، أو من دس الدساسين والإسرائيليين، ولكن هناك سائل سألني: هل الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة المعهودة الموعود بها المتقون والمؤمنون أو هي جنة أخرى؟ وكأن هذا السائل سمع من زعم من المبتدعة والجهلة أن هذه الجنة هي بستان ورياض في أرض عدن! وهذا كلام لا يقال ولا يذكر لسقوطه في نفسه؛ وذلك لأن الله عندما ذكر الجنة لآدم مناه بها وبالمقام بها، وحذره من إبليس فقال له: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى﴾ [طه: ١١٨ - ١١٩].
وهل عدن وجنانها -إن كانت لها جنان- فيها هذا الوصف؟ وهل الجنة التي في عدن أو البساتين التي في مختلف قارات الأرض؛ هل فيها بستان يوصف بأن من أقام فيه لا يجد غماً ولا هماً ولا جوعاً ولا عطشاً ولا شيئاً مما وصف الله به الجنان؟ إذاً فإنما يذكر هذا من لا يعلم ولا يعقل ويريد أن يتلاعب بالفهم في القرآن، ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام بأن التأويل بالرأي كفر، وهو أن الخروج بالتعابير العربية التي نزل القرآن عن معناها ومؤداها كفر وجحود لمعنى القرآن الحقيقي.
ثم هنا يقول الله: ﴿اهْبِطَا﴾ [طه: ١٢٣]، ولا يكون الهبوط والنزول إلا من علو، والأرض مهما كانت فهي قطعة واحدة بجبالها وأنهارها ووديانها وتلالها، ولذلك فإن هذا القول لا يلتفت له ولا معنى له وليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة.
قال الله جل جلاله لآدم ومن معه ولإبليس: ﴿اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ [طه: ١٢٣]: أي: اهبطا من الجنة جزاء وفاقاً بما خالف وأكل الشجرة التي حرمت عليه، وجزاء وفاقاً لدس إبليس وقسمه بالله كاذباً لآدم بالغرور وبالبهتان.
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [طه: ١٢٣]، ومنذ قال الله هذا وأهبطوا من الجنة إلا وبعضهم لبعض عدو، وحتى من استسلم من الإنس للشيطان وعداوته لا يكاد يستسلم له إلا ليبطش به ويذله ويرده عن دينه ويعيش في حياة ضنك.
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ [طه: ١٢٣]، أي: فإن أتاكم رسل وأنبياء يدعونكم إلى الله وعبادته وطاعته، وإن أنزلت على رسلكم كتب كالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، فأطيعوا ذلك واهتدوا بهديه واستمسكوا به.
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣]: أي: فمن اتبع هداي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، والمقصود من اتبعه إيماناً وطاعة وامتثالاً.
وقوله: ﴿وَلا يَشْقَى﴾ [طه: ١٢٣]، أي: لا يكون من حزب الأشقياء الكفار، حزب من طرد من رحمته ومن جنته ودخل النار مع الظالمين لأنفسهم، الأشقياء بكفرهم وشركهم وضلالتهم.
وقد قال عبد الله بن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: لقد ضمن الله بهذه الآية لمن آمن بالرسل وما أنزل عليهم ألا يضل في الدنيا، كما ضمن له في الآخرة ألا يشقى.