تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [طه: ١٣٣].
يقول الكافرون الجاحدون: هلا أتانا محمد بآية من ربه، وما هي الآية التي يطلبون؟ وما هي المعجزة التي يريدونها؟ فقد جاء ﷺ بالكثير من المعجزات مما لم يكن مثلها لنبي أو رسول، وإن كلم عيسى الأموات وأحياهم بإذن الله فقد كلم محمداً ﷺ الجماد، وحن الجذع إليه وهو خشب ميت لا حراك به حين تركه وكان منبراً يخطب عليه، حن حنيناً بحيث سمعه جميع الحاضرين في المسجد، وكانت أنواع الحيوانات تأتي إليه مسلمة ومصلية وساجدة أحياناً، وكان الشجر يسلم عليه، ومعجزاته كثيرة، وقد جمعت في مجلدات بحيث أصبح مجمعاً عليها.
وأعظم هذه المعجزات كتاب الله، ولكن هؤلاء مع ما يعلمون من تلك المعجزات وما رأوا يطلبون آية ومعجزة باقتراحهم، وما اقتراحهم إلا للتعنت، فقد طلبوا من نبي الله عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصفا والمروة ذهباً، أن يزيح عن مكة هذه الجبال، وأن يستأذن ربه بأن تفجر أنهاراً وعيوناً ومياهاً وأن تنتقل من كونها أرضاً صحراء إلى أرض خصبة ذات زراعة وذات شجر وفواكه.
فهم إنما يتعنتون وإنما يقصدون التعجيز، وذلك لا يعجزه ﷺ فإن ربه يعطيه حتى يرضيه، ولكن عندما يكون الطلب للتعنت لا يكون منه فائدة، وحتى لو استجيب هؤلاء لما طلبوا فيطلبون معجزات وآيات أخرى، وإذا جاءت المعجزة ولم يؤمنوا دمرهم الله وقضى عليهم ولم ينذرهم ولم يمهلهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بقومه منهم بأنفسهم، لذلك كان ينتظر بهم أن يؤمنوا، أو يخرج الله من أصلابهم مؤمنين يعز الله بهم هذا الدين وينتشر في آفاق الأرض.
قال الله جواباً لهم عندما قالوا: هلا يأتينا بآية من ربه: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [طه: ١٣٣].
أي: أو لم يأتهم يا محمد بيان ما في الصحف الأولى من كتب الله السماوية السابقة بأن أنزل عليه القرآن مصدقاً لما بقي حقاً في هذه الكتب ومكذباً لما حرف وبدل وغير، أولم تكن لهم بينة أن يذكر نبيهم في التوراة والإنجيل باسمه أحمد وبصفته ونعته، أولم يكف كل ذلك؟ وهذا لقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١]، وهذا الكتاب معجزة المعجزات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الكتاب الذي أعجز العرب وقد نزل بلغتهم، وكانوا أفصح الخلق وأبلغ الخلق، ولغتهم هي أوسع اللغات على الإطلاق بما تؤديه من معني يجري في النفس وتراه العين وتسمعه الأذن ولا يخطر على بال إنسان، وسعت كتاب الله بما فيه من أخبار الأولين والآتين، أخبار الدنيا الآخرة.
هذا الكتاب الذي معجزته ما انتهت ولن تنتهي إلى النفخ في الصور، هذا الكتاب الذي مضى عليه أربعة عشر قرناً ولا يزال الإعجاز قائماً بأنه لم يستطع أحد من الخلق أن يأتي بمثله.
هذا الكتاب الذي حوى علم الأولين وعلم الآخرين إلى أن يدخل الجنة من يدخلها ويدخل النار من يدخلها، أكل هذا لم يكفهم؟ فماذا يريدون؟ وقد اجتمعوا أكثر من مرة وأكثر من مجلس وفي أكثر من مدينة وهم يتفاوضون ويتخافتون ويتسارون: ما نوع هذا الكتاب؟ أهو شعر؟ فيجيب شاعرهم ويقول: علمنا الشعر قوافيه وبحوره وبدايته ونهايته، فما هو بالشعر.
أهو النثر؟ فيقول خطيبهم: علمنا النثر وقوافيه وسكتاته ومقاطعه وما هو به.
وإذا بأرباب العناد والكفر قالوا: هذا سحر، والسحر باطل وهباء لا يدوم ولا يبقى، وها نحن نرى القرآن قد أتى بهداية البشر أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم في جميع الدنيا مشارقها ومغاربها، ولا يزال هذا الكتاب الكريم يؤتي أكله وهدايته لكل من أكرمه الله بهدايته والإيمان به والعمل بما جاء فيه.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [طه: ١٣٣] أي: في الكتب الأولى السابقة والصحف المنزلة كصحائف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وقد بشر بنبينا عليه الصلاة والسلام في أكثر الكتب السماوية، وباليقين في التوراة والإنجيل باسمه أحمد وبصفته كذلك.


الصفحة التالية
Icon