تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
قال الله جلت قدرته: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥].
هؤلاء الكفرة لا يزالون على كفراتهم الصلعاء، وعلى جحودهم، وعلى ضربهم أخماساً في أسداس يتساءلون: من هذا الذي جاء بهذه الرسالة؟ تارة يتهمونه بالافتراء، وتارة بالشعر، وتارة ينقمون أن يكون بشراً، وفي تصورهم أنه لا يكون النبي إلا ملكاً، وأخيراً يقولون: ما باله لا يأتينا بآية كما أتى بها الأنبياء السابقون، ويعنون بالآية: ما كانوا اقترحوه وطلبوه حسب نزواتهم وأهوائهم من أن تكون الصفا والمروة ذهباً، ومن أن تزاح جبال مكة ويكون مكانها أشجار وغابات ومنخفضات، وأن تفجر مكة عيوناً، وهم مع ذلك لا يطلبون ذلك للإيمان والتصديق، وإنما يطلبونه عناداً، ويقولون: ما بال الأولين قد اقترحوا الناقة على صالح فكانت، واقترحوا واقترحوا مما ذكروه عن نوح وهود وصالح وموسى وإبراهيم؟ فكان جواب الله لهم: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٦].
أي: إن الأمم السابقة عندما اقترحوا هذه الآيات، وطلبوا من أنبيائهم هذه المعجزات فما آمنوا، أهلكهم الله ودمرهم، ولم يمهلهم ولم ينظرهم، فلو استجبنا لكم وأتتكم هذه البينات، وأنتم لا تؤمنون؛ فسيكون ذلك سبباً لهلاككم ودماركم، ولكن الله -تكرمة لنبيه- رفع ما كان قبل على الأمم السابقة، وعلى أتباع الأنبياء من الهلاك في الدنيا بغرق وصعقة وزلازل، ورجوم من السماء، بل أمهلهم علهم يؤمنون ويراجعون أنفسهم، أو لعلهم يعيشون فيأتي من ذرياتهم من يؤمن، وهكذا حدث، فأكثر هؤلاء الذين أصروا على الكفر أولاً آمنوا بعد ذلك أو آمن أولادهم وأصبحوا للإسلام قادة، وللدعوة المحمدية جنداً ودعاة بالأنفس والأموال.
وهكذا نصروا الإسلام في مختلف أقطار الأرض! ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ [الأنبياء: ٦]، أي: من أهل قرية أهلكناها، فما من أمة سبقت واقترحت على نبيها ما اقترحتم، ثم هي لم تؤمن إلا وأهلكت ودمرت، ولم يبق منها إلا الأحاديث والذكر، انتقلوا من جسوم ميتة إلى دروس متلوة، وكأنهم لم يكونوا.
قال تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٦].
أي: يا هؤلاء! أهم سيؤمنون إذا بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وأذن له بهذه الآيات التي يطلبونها ويقترحونها؟! فهذا استفهام ولكن معناه أنهم لن يفعلوا ولن يقوموا، ولكن الله لا يريد هلاكهم دون إنذار وإمهال، لعلهم يرعوون يوماً، أو يلدون من سيصبح مؤمناً داعية إلى دين الله.


الصفحة التالية
Icon