تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم)
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧].
هذا جواب لهم عندما قالوا: إن أنت إلا بشر مثلنا، فكيف نؤمن بك وأنت واحد من بيننا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق؟! فيقول الله جل جلاله لنبيه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧] أي: لم يسبق أن أرسلنا لهؤلاء القوم والبشر منذ خلق أبيهم آدم إلى خاتمهم محمد ﷺ إلا بشراً من سلالة آدم وحواء، ولو أرسل الله لهم ملكاً للبس عليهم الأمر، إذ سيخاطبهم ويحاورهم وسيعاشرهم بشراً؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعايشوه على صورته الملكية، فلا يفهمون، وقد يرعبون منه فيفرون.
وتلك من رحمة الله بعباده أنه ما أرسل لهم إلا بشراً مثلهم؛ ليفهموا ويعوا عنه، ويمكنهم المحاورة والأخذ والعطاء والسؤال والجواب معه.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا﴾ [الأنبياء: ٧] أي: بشراً، وكلمة الرجال هنا لا يعنى بها استثناء من النساء، وإن كان ذلك لم يكن، فلم يرسل الله من البشر رسولاً إلا رجلاً، ولكن الصفة تعني الملك، والملك لا يوصف برجولة ولا أنوثة، ولا يقال رجل إلا لمن كان له ضد غير رجل، فتقول: رجل وامرأة، رجل وصبي، يا رجل، أي: لم يكن امرأة ولا صبي، وتقول: جاء رجل، لم يأت ملك؛ لأن الملك من جنس غير جنس الرجال، وذاك مقصود الآية، أن الله ما أرسل رسولاً إلا بشراً، ولم يرسل ملائكة.
وهنا توجد بحوث للمفسرين في أن الله تعالى لم ينبئ امرأة، وهذا الفهم هنا لا مكان له؛ لأن الله تكلم عن الرسالة في الآية ولم يتكلم عن النبوءات.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا﴾ [الأنبياء: ٧] وكون الرسالة لا تكون إلا في الرجال هذا لا يختلف فيه مسلمان.
أما أن تكون المرأة نبية فذاك اختلفوا فيه، ولطائفة من العلماء أن ذلك قد كان، ابتداءً من حواء أمنا، إلى مريم أم عيسى، وتعريف النبي: هو عبد أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فهو لم يرسل لأحد، والرسول: عبد أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه لغيره.
وهذا معنى الرسالة، فالرسالة تعني رسولاً ومرسلاً، والنبي عبد نبئ بشيء وأخبر به لنفسه لا لغيره، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧] لم يرسل الله ملكاً للبشر، ولم يسبق أن كان ذلك في الرسالة الإلهية.
ثم قال الله لهؤلاء الجهلة الذين يطلبون رسولاً ملكاً، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧].
زعم قوم أن معنى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ [النحل: ٤٣]، أي: اسألوا أهل الكتابين السابقين من علماء اليهود والنصارى.
وليس الأمر كذلك، فليس هؤلاء بموضع الحجة حتى يسألوا، ولا يحيل الله إليهم ليسألوا، ولكن أهل الذكر هم أهل العلم، أهل القرآن، هم الذين درسوا وعلموا من الإسلام ما أصبحوا به أئمة هداة معلمين، ولقد اختار هذا المعنى من الآية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: أنا من أهل الذكر، أي: يقول الله جل جلاله: اسألوا العلماء اسألوا من سبقكم إلى التمسك بهذا الدين والإيمان به، وقد درسوا القرآن ففهموه ووعوه وعلموا ما جاء فيه فاسألوهم هل سبق أن كان في أمة سابقة أن يكون الرسول ملكاً؟ فسيجيبونكم: لم يكن ذلك، ولم يكن الرسول بدعاً من بين الرسل، كانوا هم بشراً، وتريدون منه أن يكون ملكاً، ما كان ذلك ليكون.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧]، يوحي إليهم بالرسالة والنبوءة، ودعوة الخلق إلى شريعة اختارها الله له، لكل جعلنا منكم شريعة ومنهاجاً: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] والآية تصبح عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه الفقرة من هذه الآية الكريمة يخاطب الله بها كل من لم يعلم مسألة في الإسلام، فما بالك بالعامي الذي لا يعلم من العلم شيئاً، فهؤلاء يقول لهم الله جل جلاله: إذا أنتم لم تعلموا قضية في الإسلام أو مسألة في الشريعة فإياكم أن تفتوا بالجهل والضلالة حسب الهوى! فلا يكون ذلك إلا جهلاً، ففاقد الشيء لا يعطيه، فإذا احتجتم إلى قضية أسرية أو اجتماعية أو غيرها فاسألوا أهل الذكر، أي: فاسألوا علماءكم، واسألوا من علمهم الله فهم كتابه، وشريعته، والكل يسأل من يطمئن إليه، ثقة بدينه وعلمه.
ومن هنا نشأت المذاهب، فليس كل أحد يستطيع أن يدرس القرآن أو يدرس السنة أو الشريعة، وليس كل واحد يمكنه أن يتفرغ لذلك، وليس كل صغير اعتنى به أولياؤه وآباؤه ففرغوه للدراسة وقت الطلب صغيراً ووقت الكبر، فمن هنا جاءت المذاهب، فكان على كل عامي لم يستطع معرفة الحلال من الحرام أن يلتزم إماماً عالماً، وأن يسأل من يعلم.
وليس لكل أحد مع جهله باللغة، وجهله بالقرآن والسنة، وجهله بالوسائل الموصلة لذلك من نحو ولغة وبلاغة وأصول أن يستقل بالفهم، ولو حاول فلن يأتي إلا بالطوام والكوارث مما لا يقره عقل قبل أن يقره علم، وما أكثر ما يحدث ذلك من جهلة لا يكادون يبينون الكوع من البوع! فيتخرج عنهم أقوام في تحليل الحرام وتحريم الحلال، والبهتان على الله بما لم يقله، وعلى رسوله ﷺ بما لم يصدر عنه، ويقول: أنا مجتهد، فهو مجتهد في الجهل وبالهوى، مجتهد بما لا يعود على العقول إلا بالجنون والأوهام.