تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام)
قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨].
يقول عن هؤلاء البشر الذين اختارهم أنبياء ورسلاً إنه ما جعلهم جسداً، والجسد هنا: الجنس الذي يعم الكل، أي: لم يجعلهم أجساداً وأبداناً لا يأكلون الطعام ولا يشربون، ولا يتناكحون ولا يلدون ولا يمرضون، وبالتالي: لا يموتون، وكان هذا جواباً أيضاً عن سخافات هؤلاء المشركين وما أكثر سخافاتهم قبل وبعد! وإلى عصرنا الحاضر وإلى يوم القيامة لا يزالون رجعيين في أنفسهم، يرجعون إلى الشبهة والمقولة التي كفر بها أسلافهم، وأئمة الكفر بينهم، فهم يتصورون أن الملك ينبغي أن يكون ملكاً، لا يأكل ولا يشرب، ولا يمرض ولا يموت، فأخذوا يتساءلون: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧] عجبوا! واستكثروا على نبيهم أن يأكل الطعام، ويتجول في الأسواق، ويكون بشراً مثلهم في كل خصائص البشرية، بل ومن تمام النعمة أن أرسل الله للبشر أنبياء منهم؛ ليستطيعوا أن يفهموا عنهم ويعوا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] أي: من البشر، ومن نفس العشيرة والقوم، يعلمون جنسه، وأبوته وأمومته، ونشأته وتربيته، لو لم يكن كذلك لتساءلوا كما فعلوا، لم كان بشراً ولم يكن ملكاً؟ من هو هذا؟ نحن لا نعرفه، متى كان؟ ومن أين جاء؟ قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الأنبياء: ٨] أي: بل جعلناهم جسداً يجوع ويشبع، ويمرض ويصح، ويتزوج ويلد، فهو واحد من البشر، ولكن الله أكرمه بالعصمة وبالنبوة والرسالة: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨] ولم يجعلهم الله أقواماً مخلدين، لا يموتون كما يموت كل حي، لا حي إلا الحي الدائم جل جلاله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧].
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول الخلود لله، هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي لا نهاية له، ومن عداه ما هم إلا خلق كانوا عدماً فأوجدهم ربهم، وسيعودون إلى العدم، إلى أن يبعث الله يوم القيامة من يشاء من خلقه للعدل، حتى يقتص للجماء من القرناء.


الصفحة التالية
Icon