تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً)
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠].
هذه الآية من المعجزات التي لم يظهر إعجازها، ولم تظهر دلالتها على صدق نبينا ﷺ إلا في عصرنا هذا، وكثيراً ما قلت وأقول: في مجالس العلم في الحرمين الشريفين، وفي مقاعد الجامعات، وللطلاب والمريدين: إن للقرآن والسنة معجزات أدركها الصحابة رضوان الله عليهم وآمنوا بها شهوداً، ومعجزات ذكرت أنها ستكون بعدهم فآمنوا بها تصديقاً.
ونحن نزعم ذلك أيضاً لأنفسنا، وقد جئنا بعد النبي ﷺ بأربعة عشر قرناً، وإنما شاهدنا في حياتنا وفي أيامنا مما جاء به القرآن والسنة معجزات شاهدناها وعاصرناها فوجدناها كما قالها القرآن الكريم، وكما نطق بها النبي المفسر لما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه، فهذه منها، ومن تمام الإعجاز أن الخطاب كان للكافرين.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنبياء: ٣٠] استفهام تقريري، أي: أولم ينظروا ويطلعوا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً، أي: كانتا قطعة واحدة، وطبقة واحدة.
(ففتقناهما): ففصلناهما، وفرقنا السماوات عن الأرض، وجعلنا السماوات سبعاً متفرقة، والأرضين كذلك، وما بين كل أرض وأرض وسماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هذه الخمسمائة عام يكون أيامها يوم القيامة الذي هو كألف سنة مما تعدون، أو من نوع الخمسين ألف سنة الذي يعرج فيه إلى الله؟! كل ذلك ممكن ولا نعلم حقيقته، وقد يكون من أيام الدنيا.
وقد تبارى الكفار في عصرنا من كل ملة ليصلوا إلى القمر، وزعموا أنهم يريدون أن يعلموا ما هي طبيعة القمر؟ وما تكوينه؟ وكيف حجارته؟ وكيف ترابه؟ وهل هو من نوع الأرض أو من طينة أخرى أو من عنصر آخر؟ بذلوا الملايين مما لو وزع على الخلق لما بقي جائع في الأرض.
وكان بعضهم قد وصلوا إليه وأنزلوا منه حجارة وتراباً، وحللوه، وإذا به كما أخبر تعالى، وجدوا أن التراب نفس التراب، والحجر نفس الحجر، الكل من طينة واحدة، ومن عنصر واحد، وكما أخبر تعالى أن الأرض والسماء كانتا قطعة واحدة، ومن عنصر واحد، وحجر واحد، ورمل واحد، وتراب واحد، وبعد هذا جاروا وداروا، وغيروا وبدلوا، وتلاعبوا وأسرفوا، وأتوا إلى ما قاله لنا جل جلاله منذُ ألف وأربعمائة سنة.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا﴾ [الأنبياء: ٣٠] كانتا ملتصقتين، متصلتين لا يفرق بينهما شيء.
(ففتقناهما): ففصل الله السماء عن الأرض، والأرض عن السماء، وجعل السماء سبعاً، والأرض سبعاً، وفتق كل جزء عن جزئه، وكان الكل من طينة واحدة وعنصر واحد.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠] لا تكون حياة لما في الوجود من إنسان أو جن أو حيوان أو طائر أو حشرات أو نبات إلا بالماء، ينزل الماء جل جلاله فتحيا هذه الخلائق.
وقد يكون المعنى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠] أي: ماء المني، فمنه يتكون الإنسان، ومنه تكون الجن، ومنه تكون الطير، ولكن المعنى الأول أشمل، فيدخل معه النبات، ويدخل معه أنواع الشجر ولا مني وإن كان هناك ذكورة وأنوثة، والله قد قال لنا: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢] تلقحت وتزواجت واتصلت، وكثير من الأشجار إن لم تلقح بنوعها من الذكور لا تثمر كما في النخيل، وهذا يعلمه كل من رآه ومارسه وأشرف عليه أو اطلع عليه.
﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠] أي: هؤلاء الكفار الذين رءوا هذا رؤيا العين، وسماع الأذن، وإحساس البشرة، وأشرفوا عليه واطلعوا عليه، وعلموا بيقين: أفلا يؤمنون؟ ألا يكفيهم ذلك دلالة؟ ألا يكفيهم ذلك قدرة؟ ألا يكفيهم ذلك معجزة فيؤمنوا بأن خالق هذا هو الله، وأن الله خلق ذلك وحده بلا شريك من ولد، أو صاحبة أو معين، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً؟!