معنى قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
قال تعالى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الأنبياء: ٤٤].
فسرت هذه الجملة بتفاسير أصحها ما تدل عليه الفقرة الخاتمة من الآية: أنه نقص الله أطراف أرض الكفر من الكفر، والآية نزلت والدنيا كلها كافرة، والإسلام لا يزال مضطهداً في مكة، والعالم كله كافر إلا من آمن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهكذا أثر هذا الكفر في الأرض كلها.
وقد استمر وطال ما نقص الله أطراف الأرض عندما أكرم نبيه وأتباعه، بأن خرجوا من الجزيرة العربية وقد هداهم الله على أيديهم، فخرجوا دعاة إلى الله، وهداة للناس، وخرجوا فاتحين العالم، وبعد أن ذهب رسول الله صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى ببضع سنوات في أيام عمر الفاروق رضوان الله عليه، خرج الإسلام وانتشر، وأنقص الله أرض الكفار فضمها إلى المسلمين، فنقص من أرض الكفر الشام، وضمها إلى أرض المسلمين، وانتقصت أرض العراق ومصر، والمغرب، وانتقصت أرض فارس، وهكذا تقلص العالم الكافر، وتقلصت أراضي الكفار بما زاد الله ذلك للعالم الإسلامي.
﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا﴾ [الأنبياء: ٤٤] فأخذ من أطرافها يوم الفتح، يوم الدعوة والهداية مما قام به الأصحاب مبتدئاً بذلك، والذي ابتدأ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك عندما ذهب بجيوشه في أيام حارة قائظة يقاتل الروم إلى حدود الشام، ولكنهم لم يحضروا، فأسروا من أسروا، وغنموا ما غنموا.
ثم جاء أبو بكر بعد أن رتق الفتق، وحارب المرتدين، وقاتل مانعي الزكاة، وجند الجنود، وجيش الجيوش، وذهب بها إلى أرض الروم، أرض الشام إذ ذاك، ولكن أبا بكر اختاره الله إليه وجيوشه على أبواب دمشق من أرض الشام، فجاء بعد ذلك الفاروق رضوان الله عليه فذهب بجيوشه يزحف بها فاتحاً، ومظفراً ومنصوراً إلى أن انتقص الله من أرض الكفر ما بشر الله به في هذه الآية الكريمة، وأصبحت الشام من ذلك اليوم أرض إسلام كالعراق، ومصر وأرض فارس والمغرب.
انتشر الإسلام حتى وصل إلى الصين شرقاً، وإلى قرب عاصمة فرنسا باريس بمائة كيلو متر غرباً، وأصبحت أسبانيا والبرتغال وأجزاء كبيرة من أرض فرنسا أرضاً إسلامية سميت الأندلس وعاشت ثمانمائة عام مسلمة عربية لا تعرف إلا الإسلام وإمامة محمد صلوات الله وسلامه عليه، وما غدت الأمور تتراجع إلا عندما أخذ الناس في الردة والعصيان، فعوقبوا بدمار ملكهم، وسلب دولتهم، ومع ذلك لا تزال أرض الإسلام ممتدة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بما تعد ملياراً من الخلق، حتى مع هذا العصر العصيب عصر الظلمات يأبى الله إلا أن ينصر دينه.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣].
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨].
ولذلك لا نزال ننتظر وعد الله، ونصر الله بانتشار الإسلام في القارات الخمس، ذاك وعد الله الحق، الذي نطق به كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال تعالى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٤] وذكر الغلبة هي خاتم الآية دليل على أن هذا هو المعنى.
﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٤] استفهام إنكاري تقريري توبيخي للكافرين، أي: ليسوا الغالبين، بل هم المغلوبون المقهورون، وهم الأذلاء والعبيد، وقد فعل جل جلاله، فنصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، ولا نزال ننتظر نصراً ووعداً للمسلمين في هذا العصر كما أكرم المسلمون في العصور الماضية.