تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)
قال الله جلت قدرته: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٨ - ٤٩].
هذه سورة الأنبياء، وقد ذكر فيها ما يتعلق بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وسيذكر الآن ما يتعلق بموسى وهارون وهما من أنبياء بني إسرائيل المبجلين المعظمين، وسيذكر بعد ذلك إبراهيم أبا الأنبياء، وإسحاق ويعقوب وهكذا بالتوالي، فيذكر في هذه السورة أئمة الخير والهدى والصلاح.
وكثيراً ما يقرن الله جل جلاله ذكر موسى بذكر نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن قوم موسى قد كانوا أيام أنبيائهم خير العالمين، ولكنهم كفروا بعد ذلك فبدلوا وغيروا، وأفسدوا وقتلوا الأنبياء، وسفكوا الدم الحرام، وأشاعوا الفاحشة، وإذا بهم يسلبون كل ذلك، وتسجل عليهم اللعنة والغضب إلى يوم القيامة، والله يذكر ذلك لنا ولنبينا ليعظنا ويعلمنا وينذرنا من ذلك، وأن الأمة المحمدية -ولو كانت خير للناس- إذا بدلت وغيرت، وصنعت صنع بني إسرائيل، ستكون عاقبتها عاقبة بني إسرائيل في اللعن والطرد من رحمة الله، وهذا من أسرار المقارنة في ذكر القولين والدينين، والنبيين عليهما الصلاة والسلام.
فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ [الأنبياء: ٤٨] أي: أنزل الله تعالى على نبيه موسى وأخيه هارون الفرقان، والفرقان هو: التوراة، عندما كانت كما أنزلها الله تدعو إلى الحق، وتفرق بين الحق والباطل، وتشيع النور بين الناس هدىً وصلاحاً.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ [الأنبياء: ٤٨] أي: أنزلنا وأوحينا على موسى وهارون التوراة، أنزلها مفرقة بين الحق والباطل، وكل كتب السماء هي كذلك يؤتيها الله للأنبياء ليفرقوا بها بين الحق والباطل، وبين الظلمة والنور، وبين الهداية والضلال.
قوله: ﴿وَضِيَاءً﴾ [الأنبياء: ٤٨] كما هي التوراة، وكتب الله السماوية كلها أنزلت للتفريق بين الحق والباطل، فهي كذلك ضياء ونور تبدد ظلمات الشرك والفساد؛ ليعيش الناس في نور، وليعبدوا الله على نور، ولكي لا يعيشوا في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها.
قوله: ﴿وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٨] كما أن التوراة عندما أنزلت فأوتيها الأخوان الكريمان موسى وهارون كانت تفرق بين الحق والباطل، وكانت ضياءً ونوراً تبدد ظلمات الشرك، كذلك كانت ذكراً للمتقين وعظة، وعبرة، ودعوة إلى الله، دعوة من الله للمتقين الذين يصفهم الله بأنهم الذين يخشون ربهم بالغيب، هؤلاء هم المتقون الموحدون العابدون الذين جعلوا بينهم وبين الفواحش والسوء وقاية وحاجزاً من الطاعة والعبودية وامتثال أوامر الله وأوامر رسوله، هؤلاء المتقون من صفتهم أنهم يخافون عذابه ونقمته، ويخافون أن يطردهم من الجنة ومن الرحمة، ويخشونه بالغيب ولم يروه، ولكن أنبياءهم عرفوهم به جل جلاله، والعقل يدل عليه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فأنا الإنسان كأمثالي، من خلقني ورزقني الروح والحياة، من خلق الشفتين؟ من خلق السمعين؟ من خلق اليدين والرجلين؟ من خلقني وأعطاني العافية وأغناني عن الناس، وعلمني من علمه، وهداني لدين نبيه؟ من الذي خلق السموات العلى والأرضين السفلى، وهذا النظام الدقيق في الأرض من صيف وشتاء، وخريف وربيع، وليل ونهار، وجبال ووهاد، وأنهار وبحار؟! العقل هو الدليل عندما يفكر ويعي، ويقطع بأن هذا لم يكن بلا خالق، لم يكن بلا مدبر، لم يكن بلا موجد، وهكذا النفوس السليمة، والعقول المدركة تعبر عن الله بوعيها أنه الله الخالق الرازق، المحيي المميت، وجاء الأنبياء رسلاً من الله ليبشروا المؤمن المتقي بالرضا والجنة، ولينذروا الكافر العاصي بالنار واللعنة والغضب؛ لعل القوم يعون، لعل الناس يهتدون، وهكذا كانت التوراة وهي التي أنزلت على موسى وهارون، وكانت فرقاناً بين الحق والباطل، وكانت الضياء من الظلمات وكانت ذكراً وتذكيراً للمؤمنين المتقين، المطيعين الموحدين الذين يخافون ربهم بالغيب ويخشون عذابه إن هم عصوه، وخرجوا عن طاعته، وهم من الساعة مشفقون يؤمنون بيوم القيامة، وبالبعث والنشور، وبالحياة بعد الموت، وبالعرض على الله؛ ليجازى كل على عمله، المحسن بالجنة، والمسيء بالنار، هذا اليوم العظيم ينكره الكافرون والمتقون يؤمنون به، ويخشونه، يخشون ألا يرضى الله عنهم، يخشون أن يحاسبهم حساباً عسيراً، ويخافون ألا يدخلوا الجنة، فهم مشفقون وجلون خائفون من عذاب الله، وعدم رحمته.
وهكذا يذكر الله تعالى موسى وهارون في كثير من السور والآيات؛ ليكونا القدوة والأسوة للمؤمنين بهم في عصرهم، وللمؤمنين بعدهم إلى الأمة المحمدية وإلى يوم البعث والنشور، أن نؤمن بأنهم أنبياء ورسل.
أما الشريعة والديانة: فقد نسخت شريعتهما، ونسخ دينهما، وكانا نبيين لبني إسرائيل فقط، وأما الدين الذي ندين الله به، ونلتزم شرعته، ونتبعه فهو خاتم الأديان، وهو شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام الذي رضيه الله للناس بعد البعثة المحمدية قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩].