تفسير قوله تعالى: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ [الأنبياء: ٥١ - ٥٢].
الرشد الذي أتاه وظهر وبرز عندما قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ سألهم موبخاً ومقرعاً: ألكم عقول؟ كيف تعتكفون وتقيمون على هذه التماثيل ليلكم ونهاركم عابدين؟! وإذا بهم يجيبون ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣].
فلم يجدوا دليلاً من عقل، ولا برهاناً من كتاب، وإنما التقليد الأعمى الذي لا يأتي إلا بشر، ولا يأتي إلا بفساد، فكان دليلهم أنهم وجدوا آباءهم قبلهم يعبدونها، ويعكفون عليها، ويتخذونها آلهة من دون الله: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣].
تلك حجتهم ولا حجة لهم غيرها، وقد دلت على سخافتهم، وفساد عقولهم! وأنهم في كفرهم مقلدون للآباء، يصنعون شيئاً لا يعونه ولا يعقلونه، وإنما رأوا الآباء على ضلالهم وشركهم، يشركونها بالله ويعبدونها من دون الله، فقلدوها عن عمى وضلال وفساد.
وإذا بإبراهيم يجيب: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنبياء: ٥٤] أي: قال إبراهيم: لقد كنتم يا هؤلاء الذين عاصرهم من قومه، ورآهم يعبدونها ويعكفون عليها، وعندما سألهم مقرعاً احتجوا بأنهم رأوا الآباء يعبدونها فقلدوهم، وإذا بإبراهيم يقول لهم: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنبياء: ٥٤].
كنتم أنتم ولا تزالوا، وكان آباؤكم الذين قلدتموهم في ضياع، وظلمة، وضلال بين واضح، لا يكاد يثبت على قدميه عندما يناقش بالدليل والبرهان.
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٥] أي: هذا الذي تقول أصحيح هو، وأن آلهتنا ليست بآلهة، وأن عبادتها ضلال، وأن الآباء الذين عبدوها كانوا ضلالاً، وهل أنت جاد فيما تقول أم أنت من اللاعبين الهازلين، تريد أن تمزح معنا وتقول هذا الكلام الكبير؟ هكذا قالت لهم عقولهم، وظنوا أن إبراهيم يمازحهم ويلاعبهم، وهو أعظم من ذلك مقاماً، وهو أعظم من ذلك دعوة إلى الله.