تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)
قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١].
نجى الله إبراهيم بعد أن صنعوا له الكيد في أن يحرقوه، وطالما اجتالوا بذلك ليالي وأياماً حتى اشتد اللهب وقذفوه بمنجنيق، وبقي أياماً في النار، ما كانوا يظنون إلا أنه أصبح رماداً مع الأحجار والوقود والأشجار، وإذا به يخرج وهو جالس يسبح الله ويحمد الله، ولم يحترق منه إلا الوثاق الذي وثقوا به يديه ورجليه.
وعندما جاءه جبريل وهو يقذف قال له: (هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فبلى).
وقال عن ربه: (علمه بحالي يغني عن سؤالي.
ثم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل).
فكان الله حسبه، وكان وكيله كما فعل مع خاتم الأنبياء من ذريته عندما قالوا له: إن القوم قد جمعوا لك وتآمروا عليك فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكان هذا الذكر هو الواجب على كل من يقال له: إن أعداءك تآمروا عليك، إنهم أرادوا بك الكيد فليقل: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله حسبه ووكيله، ومن كان الله وكيله لا يضره شيء لا من السماء ولا من الأرض.
قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ [الأنبياء: ٧١] بعد أن صنع فيه هؤلاء ما صنعوا حرمهم الله بركة نبي الله بين ظهرانيهم، وأمره بالهجرة والخروج من بينهم، كما أمر بعد ذلك سليله محمداً ﷺ عندما تألبوا عليه، فهجرهم وذهب إلى المدينة المنورة.
وكذلك إبراهيم أنجاه الله من أرض العراق حيث نشأ وولد في مدينة الكوفة في عصر النمرود المتأله الجبار، الطاغية الكافر الذي حاول بطغيانه أن ينال من إبراهيم، فنصر الله إبراهيم عليه نصراً عزيزاً مؤزراً، وسلط على النمرود وقومه أحقر وأصغر خلقه، سلط عليهم البعوض، فكانت البعوضة تدخل الأذن، ثم الخياشيم، وتظل تتحرك إلى أن تصل إلى المخ والدماغ؛ فيموت هلاكاً.
قال الله بعد ذلك: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ [الأنبياء: ٧١] أنجى إبراهيم وقريبه النبي لوطاً ابن أخيه، وكان قد آمن به كما آمنت به ابنة عمه سارة، وخرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشام هو وابن أخيه لوط، وزوجته وابنة عمه سارة، وترك أرض الكفر فاراً إلى عبادة الله، حيث لا يظلم ولا يؤذى ولا يحال بينه وبين الدعوة إلى الله وإلى عبادته وتوحيده.
فذهب إلى حوران من أرض الشام، وكانت بذلك نجاته من ظلم الظالمين، وبذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (أرض الشام هي أرض الهجرة بعد الهجرة، أرض مهجر إبراهيم عليه السلام).
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] يقول تعالى: إنه أنجى وأنقذ نبيه وخليله إبراهيم وابن أخيه نبي الله ورسوله لوطاً إلى الأرض المباركة التي بارك فيها للعالمين.
وجمهور المفسرين يرون أن الأرض المباركة هنا هي أرض الشام، فهي مباركة بثمارها، وزروعها، مباركة حيث هي أرض المنشر والمحشر، وفيها ينزل عيسى عليه السلام، وحيث اختارها الله هجرة لخليله وأبي أنبيائه إبراهيم عليهم السلام.
ولكن ابن عباس يقول: بل الأرض المباركة هي مكة، وتلا قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٦ - ٩٧] فقد سماه الله مباركاً، وقال الله عنها: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ).
وابن عباس كان يقول: المقام هي مكة كلها، وليس الحجر الذي تصلى فيه الركعتان فقط، وأن من طاف بالكعبة سبعاً، وصلى في البيت ركعتين فقد صلى في المقام، وقام بما طلب منه بعد الطواف.
لا شك أن مكة مباركة، ولا شك أن مكة سيدة بلاد العالم على الإطلاق هي والمدينة المنورة، فهي منزل الوحي وخاتم الأنبياء، وهي مسقط رأس سيد البشر عليه الصلاة والسلام، وهي البقعة التي جعل الله الحج إليها فرضاً على كل إنسان، ولكن بشرط أن يكون مسلماً، فإن لم يكن مسلماً فالحج واجب عليه ولكن لا يقبل منه، ولا يجوز أن يدخل الأرض المباركة ما لم يؤمن بالله رباً، ونبيه محمداً نبياً ورسولاً صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن مع ذلك إبراهيم لم تكن سكناه مكة، وعندما أتى بإسماعيل قال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] يقول: من ذريتي، أي: ببعض ذريتي.
وعندما أتى به مع أمه تركه وعاد إلى الشام، وكان يتردد عليه ولم يأت بكل أهله ولا أولاده، ولم يأت بـ سارة ولا إسحاق ولا أحفاده.
ولكن رأي ابن عباس له حرمته ومقامه، وهو حبر القرآن، وابن عباس المكي المدني.
ولقائل أن يقول: هو أعلم بهذا.
قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] والبركة: النماء والخير، بارك فيها للعالمين، وجعلها أرضاً مفتوحة لكل مسلم، وفيها من المياه أنهر عدة، وفيها من الغابات، وفيها من الزروع والثمار والفواكه، وفيها من الأنعام، وفيها من اعتدال الجو بالنسبة لغيرها صيفاً وشتاءً وربيعاً وخريفاً.
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٧١] لكل الناس، كانت كذلك ولا تزال، ولذلك جاء في الأثر النبوي والحديث: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم).
وهي الأرض المباركة، وفيها أرسل أكثر أنبياء الله، وما من نبي إلا كان منها أو ذهب إليها ورحل، ومن هؤلاء نبينا عليه الصلاة والسلام رحل صغيراً قبل النبوة مع عمه أبي طالب أولاً، ثم بعد ذلك مع مولاه زيد لتجارة خديجة بنت خويلد التي كانت بعد التجارة أم المؤمنين الأولى، وزوجته الأولى التي لم يتزوج عليها إلى أن ماتت رضوان الله عليها.
قوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ [الأنبياء: ٧١] ولوط كذلك من أنبياء الله نبئ بعد هجرته مع عمه إبراهيم، وسكن إبراهيم حوران من أرض الشام، وسكن لوط سدوم على بعد مائة وعشرين ميلاً في ما ذكروا.
وذهب إبراهيم إلى مصر فوجد حاكمها لا يقل طغياناً وجبروتاً عن حاكم العراق، فترك مصر مرة ثانية، وقد كان جبارها وطاغيتها يريد أن ينال من السيدة الجليلة سارة بسوء، ولكن الله تعالى أبعده عنها.
وعندما اجتمع بها ما رآها إلا وحشاً كاسراً، لا يكاد يحاول مس يده إلا ويشل، ويرى في سارة وحشاً ضارياً يكاد يفترسه، وإذا به يصيح: أبعدوا عني هذا الشيطان، ليس هي بإنسان، وكان ذلك عندما قيل لهذا الطاغية: رجل جاء من العراق عنده أجمل النساء، وكان هذا الفاسق الفاجر إذا سمع بجمال امرأة ينالها على أية حال كان الأمر.
وعندما أتي إليه بإبراهيم وقد طلبه قال له: من هذه منك؟ قال: أختي، يعني: أخته في الإنسانية، وأخته في الإسلام.