اجتهاد الأنبياء
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩]، وكلاً من داود وسليمان آتاه الله الحكم، آتاه الله النبوة وآتاه العلم، وسبق أن قلنا بالأمس، هل يجتهد الأنبياء أو لا يجتهدون؟ المحققون من أهل العلم يقولون بالاجتهاد، ودليلهم هذه الآية الكريمة، فقد حكم داود مجتهداً، ولو حكم بالوحي لما مدح الله حكم سليمان وأغفل حكم داود، وجعل الفهم لسليمان لا لداود، وإذا اجتهدوا فقد يخطئون، ولكن خطأ الأنبياء لا يقرهم الله عليه، كما فعل ربنا هنا في هذا الحكم، فلم يقر داود وإن أثنى عليه بالاجتهاد، وأقر سليمان وأثنى عليه.
وهذا ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في كثير من القضايا التي لا وحي فيها، ومن أشهرها ما كان في غزوة بدر، عندما وضع خيامه ومعسكره في جانب الماء، فجاء أحد الأنصار من جند رسول الله ﷺ واسمه الحباب بن المنذر فقال: (يا رسول الله! هل هذا منزل أنزلك الله فيه، لا رأي لنا فيه، أم أنه الرأي والمكيدة والحرب؟ قال: بل الرأي والمكيدة، قال: ما أرى هذا بموقف، لنصعد الجبل ونمنع أعداءنا من أن يأتوا إليه فيمنعونا من الماء بنبالهم وسهامهم، فأقره رسول الله عليه الصلاة والسلام)، ولو كان هناك وحي لما رجع إلى رأي الحباب، وقد صرح: إنما هو الرأي، ويؤكد هذا قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] ولا تكون المشاورة إلا في الاجتهاد، أما في أمر وحي إلهي فلا مجال للمشورة.
ومن هنا كان الله تعالى قد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام ليكون أسوة للخلفاء بعد استشارة أولي الرأي وأولي الفهم والعلم فيما لا نص فيه، فإن كان هناك نص فلا مجال للرأي، إلا إذا كان النص يحتمل ويحتمل، فتبقى المشورة قائمة.
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩].
سخر الله وأخضع الجبال والطير مع داود تسبح، وهو يفهم تسبيحها وذكرها، ويفهم عبادتها وصلاتها، الله علمه ذلك وخصه به.
وقد قال ربنا جل جلاله: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] يسبحه الجن والإنس والملك والدواب والطير وحيتان البحار والهوام وكل خلق الله، جماداً ومتحركاً، وهذا يؤكد ذاك: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] فالجبال أيضاً كانت تسير مع داود وهي تسبح الله وتوحده وتعظمه، وكان إذا سبح سبحت معه، وإذا صلى صلت معه.
كما سخر الطير، وكان ذلك بالنسبة للطير لجمال صوت داود الذي إذا تغنى بمزاميره التي أنزلها الله عليه، وأخذ يتلوها، ويعبد الله بها، لا يبقى طائر سمع الصوت إلا ويرتمي بين يديه أو يحلق فوقه، وهو يسبح معه بلغته وصوته.
نبينا عليه الصلاة والسلام مر ليلة على دار أبي موسى الأشعري، وإذا به يسمعه يتلو القرآن فيتوقف ملتذاً عليه الصلاة والسلام ومتفاعلاً مع جمال صوت أبي موسى، وحسن تلاوته وتجويده، وإخراجه للحروف، فلما أصبح الصباح قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي موسى: (لقد أوتيت يا أبا موسى مزماراً من مزامير آل داود) أي: التي كان يتغنى بها بتلاوة الكتاب الموحى به، ويذكر ربه، ويوحده، ويمجده.
قال أبو موسى عندما قال له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو علمتك تنصت إلي لحبرته لك تحبيراً) أي: لجملت ذلك مترنماً متغنياً مجوداً، ولكن كان على طبيعته بالنسبة إلى سماع رسول الله ﷺ أحب إليه، والله أعلم.
وأدركنا أناساً في الشام عندما ينادون بذكر الله واسم الجلالة، وعندما يتلون كتاب الله مجوداً وبحروف يخرجونها كما أنزلت مع جمال الصوت، وتكون الليالي باردة على حال برد الشام، والشبابك مقفلة بالزجاج، لا تشعر إلا والطيور تترامى على هذا الزجاج بالعنف، وقد تقع في الأرض لشدة الصدمة ميتة، وقد يكسر الزجاج فيطير الطائر ويقف بين يديه وهو ينصت، وهو عادة متوحش لا يقبل أن يحضر مع الناس؛ ولذلك هذا الطير الذي خلقه الله هو أيضاً يذكر الله، وهو أيضاً له حاسة بالتمتع والتلذذ بذكر الله وجمال صوته به، وهذا من معجزات هؤلاء الأنبياء الكرام.
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] أي: وسخرنا له الطير تسبح معه، وتعظم معه، وتمجد معه.
﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] أي: فاعلين تفهيم سليمان لحقيقة الحكم، فاعلين لتسخير الجبال والطير لداود، فاعلين لفهم داود لذكر الجبال وتوحيدها وعبادتها، وذكر الطير وعبادته وتغنيه كذلك بربه، كنا فاعلين كل ذلك، فهو صاحب الأمر والنهي، وهو الفاعل المختار جل جلاله وعز مقامه.


الصفحة التالية
Icon