تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥].
هذه الآية من أعظم الآي على قلة ألفاظها وبديع جملها كالقرآن كله فصاحة وبلاغة وجمع كلم، فقد جمعت فأوعت أطوار الإنسان ومراحله منذ الخلق الأول؛ منذ خلق أبينا آدم من تراب وإلى أن نعود بعد ذلك إلى التراب، في كلمات قليلة ذات معان كثيرة، وتحتمل هذه الآية وحدها مجلدات في التفسير والبيان.
والأطباء لهم فيها قول، والأدباء لهم فيها قول، والشريعة بأحكامها لها فيها قول كشأن القرآن الكريم، فيأخذ منه كل عالم بإحدى فنون علم الإسلام مما هو في حاجة إليه، وإلى معرفته، وإلى بيانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: ٥] إذا قال الله: يا أيها الناس! فالخطاب والدعوة لكل بني آدم وبنات حواء، فكل البشر يعد بذلك مخاطباً، ويعد بذلك مبلّغاً، وتلزمه الحجة البالغة إذا هو تمرد وإذا هو عصى وإذا هو خالف.
وإذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا! كان الخطاب للمؤمنين، وعادة القرآن الكريم ينادى بيا أيها الناس! في أصول الخلق والشريعة والدعوة إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالله ورسله في أصول الإسلام، وأصول الديانة.
وإذا قال: يا أيها الذين آمنوا! فهو نداء للمؤمنين ليستجيبوا لفروع الشريعة ولأحكامها، أو يزدادوا إيماناً وتمسكاً بأمور عقائدهم.
وهنا الخطاب للناس جميعاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾ [الحج: ٥] يا هؤلاء الناس! مؤمنهم وكافرهم، المؤمن بالبعث والكافر بالبعث، ويا هؤلاء! الذين لا يزالون في شك وفي ريب من البعث والخلق الثاني بعد الخلق الأول، والحياة الثانية بعد الموت والنشور والعرض على الله إما إلى جنة وإما إلى نار: إن كنتم لا تزالون في ريب وفي شك فاسمعوا قصة الإنسان وحياة الإنسان، والأطوار التي تطور فيها الإنسان منذ كان تراباً وقبل أن يخلق إلى أن عاد تراباً ثم حياً ثم يبعث بعد الموت.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: ٥] هذه هي الأطوار البشرية منذ التراب وإلى التراب وإلى البعث بعد الموت: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: ٥] فخلق أبانا الأول أصل مادتنا وكياننا ووجودنا، خلقه من تراب؛ من كل أنواع التراب في الأرض: خصبها وجافها، صحرائها ومنبتها، جبلها ووهادها، ومن هنا كانت أنواع السلالة والذرية أشكالاً وألواناً، فالذكي والبليد، والأبيض والأسود، والطويل والقصير، ومن يعيش مدة ومن يزيد على ذلك، ومن يجهض قبل الولادة.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: ٥] خلق أبانا من تراب، ثم نفخ فيه من روحه فكان بشراً سوياً، ثم خلق زوجته أمنا الأولى حواء عليهما السلام وعلى نبينا.
ثم كانت السلالة بعدهما من نطفة، والنطفة: هي القليل من الماء، فتطلق على الماء عموماً، وكان من ذلك المني أصل البذرة البشرية بعد الخلقة الأولى من التراب.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [الحج: ٥] (ثم) هنا على ترتيبها الزمني الوقتي، فكانت الخلقة الأولى من تراب، ثم الخلقة الثانية من نطفة من تزاوج بين ذكر وأنثى، فصب ماء من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء فكون الوليد.
وهكذا منذ آدم وحواء وإلى عصرنا وإلى آخر مخلوق إلى يوم النشر، وإلى يوم النفخ في الصور، هكذا الخلقة من ماء مهين.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ [الحج: ٥] والعلقة: هي القليل من الدم إذا قسا وتجمع، ولكنه بقي طرياً أشبه بالعلقة وهي الحشرة المعروفة.
﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ﴾ [الحج: ٥] والمضغة: هي قطعة اللحم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) وهكذا الإنسان يبتدئ تراباً، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، مخلقة أي: كاملة تامة بتخطيط حواسها وجوارحها من عين وشفتين ومنخرين وأذنين ولسان ويدين ورجلين ورأس وشعر وفرج، وهكذا يخطط الإنسان وهو في رحم أمه في الطور الثالث، هذه المضغة تكون مضغة غير مخلقة، ثم تتحول إلى مخلقة، أي: تصبح تامة الخلقة، تامة الحواس، إنساناً كاملاً ولكنه لا يزال جنيناً في الرحم.
قال تعالى: ﴿مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥] أي: تامة وغير تامة، فالتامة قد تأخذ سبيلها إلى التمام إلى أن تولد وتخرج للدنيا طفلاً، وغير المخلق: أن يسقط ويجهض وهو لم يتم خلقه بعد، ولم تبن حالته، ولم يظهر بعد أذكر هو أم أنثى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥].
ثم قال تعالى: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [الحج: ٥] أي: قدرة ربكم على فعل كل شيء وصنع كل شيء، وخلق كل شيء، كيف جعل من التراب الميت إنساناً سوياً، جميل الجوارح، جميل التقاطيع، فصيح اللسان، عاقل الفكر، متكلماً، وإذا به يخلفه ثم جعله الله خليفة في الأرض، كما قال عن داود: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [ص: ٢٦]، وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
وإذا بهذا التراب يتحول بقدرة الله على كل شيء إنساناً كاملاً في أطوار من تراب إلى نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، ثم بشراً طفلاً صغيراً سوياً، وقد خرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.
قال تعالى: ﴿مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [الحج: ٥] أي: نبين لكم قدرة ربكم على فعل كل شيء وخلق كل شيء، وكيف قد خلق من الميت الحيَّ، ومن الحي الميتَ، وصنع من التراب الهامد الذي لا يتحرك ولا حياة فيه بشراً سوياً، ونشره في الأرض فأصبح سيد الخلق، والمحكم في الخليقة، فيأمر وينهى، ويقتل ويحيي بإذن الله إن كان عادلاً، ويظلم ويسفك الدم الحرام إن كان ظالماً.
قال تعالى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٥] أي: هذه المضغة غير المخلقة التي تسقط وتجهض قبل خروجها للعالم.
وعلماؤنا وأطباؤنا جماهيرهم تقول: الجنين لا يبقى في رحم أمه أكثر من تسعة أشهر، ولكن الكثيرين يؤكدون ويقولون: قد يبقى الجنين في بطن أمه سنة كاملة وسنتين وأكثر.
وكثيراً ما يقول الناس في تراجم علماء وأقوام ورجال وسادة: أنه عاش في بطن أمه كما أخبرته أمه سنة وسنتين.
يذكر هذا عن أحياء، ويذكر هذا عن أموات، ويذكر عن كبار من الأئمة وعن صغار من الناس.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ [الحج: ٥] ثم يخرجنا من الأرحام طفلاً، وفي لغة العرب المفرد قد يطلق مذكراً على الجمع، أي: نخرجكم أطفالاً.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ [الحج: ٥] لتصلوا وتبلغوا إلى الأشد، وإلى القوة وتمام الرجولة وتمام العقل، وتمام القوة، وتمام القدرة على الحياة بما ينفعك أو يضرك.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ [الحج: ٥] أي: منكم من يموت عند الشبيبة وعندما يبلغ الأشد، ومنكم من يموت طفلاً، فقد يموت الإنسان شاباً، وقد يموت كهلاً، ومنهم من يزيد به العمر إلى أن يصير شيخاً حاضر الذهن، حاضر الوعي، وقد يصل إلى أرذل العمر.
قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ [الحج: ٥] فيرد إلى خلقه الأول ضعيفاً، فقد خلق عاجزاً عن النطق وعن الوعي فيعود للعجز عن النطق وعن الوعي، ولذلك سمى الله هذه السن الفانية: أرذل العمر، أي: أقبح العمر وأقبح الأيام، وقد استعاذ بالله نبينا من ذلك عليه الصلاة والسلام، استعاذ بالله من الفقر، ومن الجوع، ومن الكفر، ومن بلوغ أرذل العمر.
وقد يصل الإنسان -ونشاهد هذا كثيراً وتشاهدونه- إلى مائة سنة وقد يتجاوز ذلك، وقد مات رجل صالح في أرض المغرب تجاوز المائة والعشرين سنة وهو على غاية ما يكون من الوعي والفهم والعقل، يسأل عن أحوال المسلمين في المشارق والمغارب، مما يدل على أنه مع هذه السن لا يزال واعياً، ذاكراً، متتبعاً أحوال المسلمين، يهتم بهمومهم، فيفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.
قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٥] اللام هنا هي لام العاقبة، أي: ليصل إلى درج


الصفحة التالية
Icon