تابع تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
قال الله جل جلاله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: ٨ - ١٠].
يذكر الله جل جلاله أن من الناس قوماً كفرة مشركين يجادلون في الله بغير علم ولا هداية ولا كتاب نير، ولا تكون مناقشتهم مناقشة علم ولا بحث في دليل، ولكنه السعي في الجدل بما لا طائل تحته.
فقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٨] أي: لا علم عنده ولا معرفة لديه ولا دراسة.
قال تعالى: ﴿وَلا هُدًى﴾ [الحج: ٨] أي: ليس من الهداة الذين يستحقون أن يجادلوا أو يبحثوا أو يذاكروا في الله وعلمه وكتابه وشريعته.
قال تعالى: ﴿وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [الحج: ٨] أي: لا كتاب عندهم يعتمدون عليه ويستدلون به، فهم يناقشون ويجادلون بغير عقل ولا فهم، ولا دليل ولا برهان من عقل أو نقل، لا بنقل من الله في كتابه، ولا ببيان من رسله، ولا بمنطق تقبله العقول، وإنما هو الجدال بالباطل في الخالق العظيم جنابه والعظيم مقامه جل جلاله.
وليس هذا تكراراً للآية السابقة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣]، فهناك نوعان من الناس: كفرة مقلدون، وكفرة يخترعون ويبتكرون ويكونون أئمة للكفر والفجور والجدال بغير حق، ففي الآية السابقة أولئك يجادلون في الله بغير علم، ولكنهم مع ذلك مقلدون قردة يتبعون كل شيطان وأفاك أثيم، فهم في كفرهم مقلدون، ويكررون ما لا يفهمون ولا يعون.
وهؤلاء يبتكرون ويأفكون ويخترعون الكذب بحيث يكونون أئمة لأولئك، ولكن أيضاً بغير برهان من الله ولا دليل من عقل، ولا كتاب أنزل أو فسر به ما أنزل.
قال تعالى: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] حال كونه لاوياً عنقه وجنبه، معرضاً عن الحق وعمن أتاه به؛ تعاظماً وتكبراً واستعلاءً عليه، وهذه سخافة عقل وضياع فهم وإدراك، فمع كفره وشركه تراه متكبراً بكفره يظن أنه على شيء وليس على شيء.
قوله تعالى: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٩] أي: يجادل في الله وهو لا يريد بذلك الجدال الخير، وإنما يجادل بلا دليل له من نقل ولا عقل، يريد به الصد عن الله وسبيله، وعن رسالة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ [الحج: ٩] أي: له في الدنيا خزي: من السمعة السيئة، واللعنة، ومن استحقار الناس له، وإذا وقع في الأسر فإنه يقتل ويصادر ويعامل معاملة الدواب، والأعداء الذين يظفر بهم المؤمنون هذا عذابهم في الدنيا: الخزي والذل والهوان.
قال تعالى: ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: ٩] أي: يكونون يوم القيامة وقوداً للنار مع الحجارة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: ٦]، فهذه النار التي يكون وقودها أمثال هؤلاء الناس من المجادلين في الله بغير علم يحرقون بها، ويكونون حطبها ووقودها.
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] أي: يقول الله أو ملائكته لهذه الطبقة من الناس المشركة المجادلة بالباطل: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] أي: ذاك الحريق والعذاب وذاك الهوان في الدنيا وعذاب الآخرة جزاءً وفاقاً لشركه وكفره، فهم يعذبون ويقال لهم: ذوقوا.
فقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠] أي: بما سبق أن صنعته وفعلته واكتسبته من شرك وكفر.
ونسب ذلك لليد؛ لأن من شأن اللغة أن ما اكتسبه الإنسان وحصله ينسب ليده، فبيده يبطش، وبيده يتحرك، وبيده يرفع الكتب وينزل، وأصبحت الكلمة معناها أعم من ذلك، فذلك بما كسبت يداك، أي: ما صنعته واكتسبته وقمت به من باطل وكفر وشرك.
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: ١٠] أي: ما حصل لهم وعوقبوا عليه من هوان وذل في الدنيا ونار وحريق في الآخرة، كان ذلك جزاءً وفاقاً لما كسبت أيديهم، وما صنعوه من جدال بالباطل.
والله ليس بظلام أي: ليس بظالم، وظلام صيغة مبالغة، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا).
فهو لا يظلم أحداً شيئاً، فمن يأت بمثقال ذرة خير جوزي بها إحساناً، ومن يأت بمثلها الشر جوزي بها، وقد يغفرها الله، وقد يضاعف الله الحسنة أضعافاً كثيرة.


الصفحة التالية
Icon