تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا)
قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥].
يخبر الله جل جلاله عن قوم حسدوا رسول الله وأبغضوه، وتربصوا به الموت والدوائر، وتمنوا له السوء من اليهود في الدرجة الأولى، والنصارى والمشركين عموماً، وكان هذا في عصر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو مستمر ما دام الكفر في الأرض بكل أنواعه.
فتجدهم يتناولون النبي عليه الصلاة والسلام بكل سوء وحقد، وبما لا يفعله إلا عدو كافر مشرك حلال الدم.
قال الله عن هؤلاء: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [الحج: ١٥] أي: من كان يظن من المشركين أن الله لن ينصر نبيه، ولن يجعل العاقبة له، ولن يعزه ولن يكسبه الظفر والنصر في الدنيا، والجنة والشفاعة العظمى في الآخرة، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] أي: فليمدد سبباً من الأسباب إلى السماء كالحبل مثلاً، والسماء: ما علاك، أي: إلى سقف البيت.
فهؤلاء تمنوا للنبي الغوائل، وتربصوا به الدوائر، وظنوا أنها أيام وستنقضي كما ظن الكثيرون من المعاصرين، وظنوا في أيام الصليبيين والتتار وأيام الاستعمار الأوروبي والأمريكي أن الإسلام انتهى، وعادت هذه الخرافة والأسطورة على أنفسهم.
فهؤلاء الذين يظنون ذلك يظنون باطلاً من القول طالما سعوا في القضاء على الإسلام منذ ألف وأربعمائة سنة، بل ما كاد النبي عليه الصلاة والسلام يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى تواطأ وتآمر على الإسلام متنبئون كذبة: كـ مسيلمة وسجاح والأسود العنسي يريدون القضاء على الإسلام وحربه، وارتد الكثيرون في جزيرة العرب حتى لم يكد يبق مسلم إلا في مكة والمدينة والبحرين وضواحيها.
ومع ذلك خاب فأل هؤلاء منذ الساعة التي توفي فيها النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن الأمر قد زاد سوءاً بين الصحابة على الخلافة، وعلى مكان دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حرب مانعي الزكاة، وعلى الحرب التي ابتدأت في حروب الردة، وخروج الجيوش من المدينة المنورة لقتال الروم الذين جهزهم النبي عليه الصلاة والسلام وعقد اللواء لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه.
مع هذه الفتن الداخلية والخارجية طمعوا في نهاية الإسلام، لكن خابوا وخاب فألهم، وانتصر الإسلام وانتشر كالسيل المنهمر شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فلم تمض خمسون سنة حتى وصل الإسلام شرقاً إلى بلاد الصين، وغرباً إلى بلاد فرنسا، وما بينهما شمالاً وجنوباً.
وهكذا أتت فتن جديدة، إذ جاء الصليبيون واحتلوا الأرض التي احتلها اليوم اليهود في صليبية جديدة، وطمعوا أن يصلوا إلى الحجاز ونزلت جيوشهم في ينبع، فما كان يمضي على ذلك سنون حتى قدر الله لهم من يقضي عليهم ويرميهم لحيتان البحر، ويعود الإسلام أقوى مما كان وأعز.
ثم عادت فتن جديدة بعد ذلك بقرون، فجاء التتار فقضوا على الخلافة الإسلامية العباسية، ودارت الدوائر على الإسلام وأهله، حتى قال الكثيرون: انتهى الإسلام.
ولكن الله دمر هؤلاء الأعداء وسحقهم وأذلهم، وعاد الإسلام أقوى مما كان، ففتحت بعد ذلك أقطار في أرض أوروبا وفي المشارق والمغارب، وتدخل في الإسلام القسطنطينية فاتيكان الكنيسة الشرقية حينذاك، فتصبح دار إسلام وعاصمة الإسلام قروناً، ولا تزال دار إسلام ولله الحمد.
ثم بعد ذلك جاء الاستعمار الأوروبي والاستعمار الأمريكي بكل أشكاله وانتهى، وعاد المسلمون إلى استقلالهم وعزتهم بعد استعمار طال في بعض هذه الأقطار ثلاثمائة سنة أو تزيد أو تنقص وما بين ذلك.
وهكذا أصبح للمسلمين دول بالعشرات، وهذه مصيبة، فإن يد الله مع الجماعة، فيجب أن يعود الإسلام واحداً كما أن الرب واحد والنبي واحد والكتاب واحد واللغة واحدة، ويجب أن يكون القائد واحداً يلقب بالخليفة أمير المؤمنين.
والله ناصر دينه ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، واليوم يطمعون أن يذلوا العرب والمسلمين وهيهات، فالله تكفل بدينه ونصرة عباده المؤمنين، والتاريخ يشهد بذلك.
ولذلك فهؤلاء ومن استسلم وخضع لهم ستكون نهايتهم كنهاية الماضين من أولئك المتمردين على خلافة أبي بكر، وعلى الإسلام بعد ذهاب النبي إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
وسينتهون كما انتهى الصليبيون والتتار والاستعمار الأوروبي والأمريكي بأشكاله، وسيذهب هؤلاء وسيصبحون كالأمس الدابر وكأنهم لم يكونوا.
ولا تحدث هذه الفتن إلا عقوبة للمسلمين عندما يتركون الله وكتابه، والنبي ورسالته، ويذهبون يتسولون الأفكار والمبادئ والأديان والآراء الشيطانية، ويتركون ما عزوا به وسادوا في الأرض دهراً بعد دهر وقرناً بعد قرن.
فقوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] أي: ليمد حبلاً في سقف بيته ويربط به عنقه، ثم ليقطع الحبل وليشنق ولينظر بعد ذلك هل شنقه لنفسه وقتله لنفسه سيذهب غيظه الذي في نفسه على محمد وأتباع محمد والإسلام؟! يظن ذلك أنه سيمكر بغيره، وإذا به مكر بنفسه وانتحر إلى جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٩]، وهذا معنى الآية.
قال قوم: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] يمد الحبل في سماء غرفته، أي: سقفها، ثم يربط عنقه فيه.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] وستكون النتيجة أنه شنق نفسه وانتحر وقتل، وسيبقى النصر لمحمد ولأصحابه ودينه، ولو كره هذا الكافرون الحاسدون.
وفسر قوم الآية بشكل آخر: فسروا السماء بالسماء المعروفة، وقالوا: معنى الآية: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج: ١٥] أي: ليمد سبباً إلى الصعود إلى السماء، كما طلب فرعون من هامان أن يبني له صرحاً إلى أسباب السماء؛ ليطلع إلى إله موسى.
فقوله: (فليمدد بسبب) أي: فليعمل سلماً وصرحاً لا يخطر بباله، وليصعد إلى السماء ويوقف نصر السماء على محمد، وليمنع ذلك إن استطاع، وهذا منتهى الاستهزاء والسخرية بهؤلاء، فلا هؤلاء يستطيعون الوصول إلى السماء، ولا يملكون سبباً لذلك، ولو فعلوا لرجموا كما ترجم الشياطين عندما يريدون أن يسترقوا السمع من السماء من الملائكة.
وقوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥] أي: يقطع هذا السبب، واللام لام الأمر.
وقال أكثر المفسرين: الأقرب للمعنى المعنى الأول: أن يربط حبلاً في سماء داره -أي: في سقفه- وليربط بذلك عنقه ثم ليقطع السبب، فسيسقط مخنوقاً مشنوقاً، ولينظر بعد ذلك ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥] هل هذا الذي يظن أنه سيكيد لمحمد ودين محمد وأتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه هل سيذهب ما يغيظه في نفسه، أي: ما يحرق فؤاده ويعض منه الأنامل؟ وليس هذا إلا هزؤ من الله بهؤلاء، ويعلمنا كيف نفعل عندما نريد أن نجادلهم كجدالهم بالسخرية بهم والهزء بما يقولونه، فيجب أن يجابوا أيضاً بمثل ذلك؛ سخريةً وهزءاً، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].