تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: ١٨].
يقول الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول لجميع المسلمين من أتباعه كما هي نداءات ودعوات القرآن: ألم تر يا محمد بقلبك وبعلمك، وبإطلاع الله لك على ما هناك؛ أن هؤلاء الذين جحدوا من الناس وكفروا وأشركوا هل يجدون نظيراً لهم في خلق الله من الحيوانات والجمادات وكون الله الأعظم؟! قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الحج: ١٨] ففي السماوات الملائكة يسجدون أبداً، وكما قال نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أطت السماء وحق لها أن تئط) أي: لثقل ما تحمل كما يصوت السقف المصنوع من خشب عندما يثقل بمن عليه، فيأخذ في التصويت، فيقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: صوتت، (وحق لها أن تئط) أي: ما أجدرها بذلك (ما من موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)، وفي رواية: (يقول: لا إله إلا الله).
والعبادة للملائكة كالنفَس للإنسان، فكما أن الإنسان لا يعيش بلا نفَس صاعد أو هابط، فكذلك الملك بالفطرة لا يستطيع أن يعيش بلا عبادة، فالعبادة للملك كالنفَس للإنسان.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ [الحج: ١٨] أي: يعبده، والسجود: هو أقوى العبادة ومخها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فادعوا ربكم في سجودكم؛ فقمن أن يستجاب لكم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا فيه).
قوله: ﴿يَسْجُدُ﴾ [الحج: ١٨] السجود هنا كناية وعبارة عن العبادة بكل أنواعها، وأعظمها السجود الذي لا يجوز ولا يحل لمخلوق حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى للملك من باب أولى، ﴿يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [الحج: ١٨] فالشمس تسجد لربها، والقمر يسجد لربه، والنجوم تسجد لربها، والجبال تسجد لربها، والشجر تسجد لربها، والدواب على كل أنواعها تسجد لربها.
قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ١٨] والكثير من الخلق ممن آمنوا بالأنبياء قبلنا، وممن آمن بخاتم الأنبياء معنا أو قبلنا أو من سيأتي بعدنا إلى يوم البعث والنشور كلهم سجدوا، وكذلك عبدوا، ولكن من الناس من لم يفعل، فقال الله عنهم: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨].
أي: وكثير ممن لم يسجد من الناس سيعذب؛ نتيجة تمرده في العبادة، وعدم سجوده لله؛ لأن الله ما خلق الإنسان والجن إلا للعبادة، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
قوله: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: ١٨] أي: كثير من الناس ممن أشرك وكفر، وممن لم يعبد الله ولم يؤمن به وبأنبيائه.
قوله: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ [الحج: ١٨] أي: من أهانه الله بالذل والخزي في الدنيا، وبالعذاب يوم القيامة فلن يعزه ملك، ولن تعزه دولة، ولن يعزه أولاد، ولن تعزه جيوش، بل لا يزيده كل ذلك إلا ذلاً وهواناً وعذاباً وخزياً.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: ١٨] أي: يفعل الله جل جلاله ما تشاء إرادته، وما يشاء أمره، وما يريد في خلقه، فهو يملك الكل، والمالك يتصرف في ملكه كيف شاء وبما شاء، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وكيف سجود الدواب والشجر والقمر؟ قال قوم: فيئها وظلالها هو سجودها، وهذا كلام لا معنى له، سجودها وعبادتها كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤].
والشيء يطلق على كل شيء مما سمى الله تعالى في كتابه من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، على كل أصنافها وأنواعها، فالكل يعبد الله ويذكره ولكننا لا نفقه تسبيحهم.
وقد فقه تسبيحهم بعض خلقه من الأنبياء، كما قص علينا فيما أعطاه لسليمان، فكان سليمان يفقه تسبيح الطير والنمل، وكان يكلمهم ويكلمونه.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، ففي المعجزات الواردة المتواترة المقطوع بصحتها، المستفيضة استفاضاً، الواردة عن الجماهير من الصحابة: أنه كلمه الجمل.
وجاءت شجرتان -وهو يريد قضاء حاجة في البرية- فاجتمعتا حتى ظللتاه، ثم ذهبتا إلى مكانهما، بل وأكثر من هذا حن الجذع المقطوع من الشجر، وهو الميت مرتين، والشجر لا نعلم أنه ينطق.
فكان عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر المصنوع من هذه الأخشاب، وعندما غيّر منبره وترك الجذع الذي كان يقف عليه، حن هذا الجذع -جذع النخلة- حتى سمع حنينه وصوته كل من في المسجد، فنزل عليه الصلاة والسلام وضمه إليه فسكت.
وشكا إليه الضب، والذئب، وشكت إليه حيوانات وفهم عنها وأجابها عليه الصلاة والسلام، وما من معجزة كانت للأنبياء قبل إلا وكانت لنبينا عليه الصلاة والسلام وزيادة.
فإن كان إبراهيم خليل الرحمن فمحمد خليله وحبيبه، وإن كان موسى كليم الله فمحمد كلمه ورفعه إليه، فذهب في ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، وأمره بالصلاة عليه الصلاة والسلام.
فإذاً: هذا الإنسان العنيد، هذا الإنسان المشرك الذي انفرد من بين كون الله الأعظم، الذي تمرد تمرداً لم يتمرده شجر ولا حجر ولا دابة ولا شمس ولا قمر ولا نجوم، فكلها عبدت ووحدت الله وقدست الله وسجدت له إلا هذا الإنسان المشرك، إلا هذا الإنسان الكافر الذي تمرد على ربه ولم يسجد ولم يؤمن.
ولذلك قال الله تعالى عن هذه الفئة التي حق عليها العذاب، وأصبح العذاب في حقها واجباً لا منحى عنه ولا مبعد له، وإن مات عليه خلد في النار إلى أبد الآباد في ذل وهوان، لم يرفعه عز عزيز، ولا ملك ملك، ولا قوة جيوش، فمن أذل الله فلا معز له، ومن أعز الله فلا مذل له، والله يفعل ما يشاء.