تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٠] (ذَلِكَ) أي: الذي حكاه الله جل جلاله وأمر به: من قصد البيت الحرام للحج، وذكر الله في الأيام المعلومات، وتقديم الذبائح والضحايا والهدايا على اسم الله وباسم الله.
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: ٣٠]، أي: مع هذا مع الأجر والثواب فيما مضى بالذكر كذلك: ((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ))، وحرمات الله كل شيء حرمه الله، فمن ابتعد عن المنكرات والكبائر وما إليها، ومن ابتعد عن الجرائم وما إليها، والحرمات: كل ما حرم الله فعلى المسلم أن يجتنب ويعظم انتهاك الحرمة، وارتكاب الحرام.
((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)) خير له يوم القيامة، بل خير له في الدنيا كذلك، فالله يجازيه بالجنة، ويجازيه بالرضا والرحمة، ويعطيه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقال بعض المفسرين: الحرمات هنا حرمات المناسك، وحرمات مكة المكرمة، وقالوا: الحرمات: هي بيت الله الحرام، والبلد الحرام، فالكعبة هي بيت الله الحرام، ومكة هي بلد الحرام، وذو الحجة شهر حرام، فهذه كلها حرمات بعضها متصل ببعض عند من يدخل مكة، فهناك حرمة البيت، وحرمة المناسك، وحرمة البلدة.
وأما في الحج فهناك حرمة المناسك كلها، بما فيها من طواف وسعي ووقوف بعرفات، إلى بقية المناسك، ومن عمم أدخل هذه وزاد عليها بقية الحرمات.
ومن هنا فإن هذه الحرمات من حاول أن يتجاوزها بكلمة بذيئة، أو بمخالفة وعصيان، فإن عقابه عسير، وهي حرمات كتاب الله، وحرمات السنة المطهرة، وحرمات نبي الله عليه الصلاة والسلام والأصحاب والسلف الصالح والوالدين والإخوة والمشايخ والمسلمين عموماً، وكل ما دعا الله لحرمته ولتقديسه وللعمل به، فكل ما دعا الله إلى تركه من أنواع الحرام يدخل في الحرمات، إما تحريم الانتهاك للحرام، أو تحريم عدم احترام لهذه المقدسات.
((وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)) أي: هذا المعظم لحرمات الله خير له وأقدس وأكسب وأربح من رضا الله، والكسب الذي يأتيه عن الله ومن الله هو رضا وطاعة ورحمة.
ثم قال تعالى: ((وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ)) أحل الله تعالى أكل الأنعام، وركوب ما يركب منها، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم بنوعيها؛ الماعز والضأن، فأحل الله أكل لحومها جميعاً، وأحل ركوب الإبل، وأحل ألبان الجميع، وأحل اللحوم والكسب الناتج عن البيع والتجارة فيها.
والأنعام: جمع نَعم، والنَعم جمع لا مفرد له، ويفرد عندما تذكر كل نوع من الأنواع، تقول: جمال جمع جمل، أبقار جمع بقر، وهو جمع مفرده بقرة، أو غنم أيضاً جمع لا مفرد له، لكن تقول: شاة وتقول: خروف، وتقول: ماعز.
((وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ))، وقد تلا ربنا جل جلاله ما حرم علينا، فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: ٣]، فهذه التي تلا الله تعالى علينا هي التي حرمها واستثناها، فلا تؤكل الأنعام إذا كانت ميتة، ولا يؤكل دمها، ولا تؤكل متردية، ولا تؤكل نطيحة، ولا تؤكل وقد أكل منها السبع إلا إذا استدركت وذبحت قبل أن تموت، وما دون ذلك من الأنعام حلال أكله وشرب حليبه، وأكل نتاجه، والتجارة فيه، وتقسيمه هدايا وأضحيات، سواء في الحج أو في أعياد الأضحى.
قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٠].
أمرنا الله جل جلاله أن نجتنب -أي: أن نبتعد-، وكلمة (اجتنب) أبلغ في التعبير وأشمل من كلمة: حرّم، فبعض الجهلة يقولون: تحريم الخمر في القرآن ليس صريحاً؛ فقد قال الله: اجتنبوا، والاجتناب ليس معناه التحريم، وهذا خطأ، فالاجتناب أبلغ من التحريم.
(مِنَ الأَوْثَانِ)، و (من) هنا تعتبر للجنس، أي: كل التماثيل والأصنام، وكل الأوثان: الحجارة والجمادات والأخشاب التي عبدت دون الله اجتنبوها، واجتنابها يكون كالخمر، فلا يحل بيعها، ولا شراؤها ولا امتلاكها ولا إهداؤها ومن باب أولى لا يحل السجود إليها.
كذلك الخمر لا يحل بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها، ولا هبتها، ولا توريثها ولا شيء من هذه الأشياء، في حين حرم علينا بالنص: الحرير والذهب، وليس معنى التحريم هنا الاجتناب؛ فإنه يباح لنا امتلاك الذهب، وامتلاك الحرير والتجارة فيهما، وتملكهما واهداؤها والمعاوضة والمبادلة فيهما، وإنما حرم علينا اللبس، ولو قال لنا: اجتنبوا الذهب والحرير لكان الاجتناب كاملاً كاجتناب الأوثان واجتناب الخمر، لا بيعاً ولا شراء، ولا امتلاكاً ولا عطاء ولا مبادلة.
((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ)) الرجس هو: القذر والوساخة، وهو الحرام، فكلمة الرجس جمعت جميع الأنواع القبيحة المسترذلة فيما يطلق عليه من معاني الأشياء، فالأوثان هي القذر والشرك، والأوثان معناها فاسد، فالتمسك بها يدل على ضياع العقول، والسجود لها يعد حماقة، وامتلاكها كذلك، وتزيين الدور بها كما أصبح يفعل الكثير من المسلمين؛ فإنهم يصنعون أصناماً كاملة، أحياناً لأناس، وأحياناً لحيوانات، فتلك تماثيل كذلك وأصنام، وقد حرمها الله جل جلاله.
((اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ)) أي: اجتنبوا الأوثان، فالأوثان كلها رجس وحرام، وكلها ممنوعة، وكلها قذر ووساخة، و (من) ليست للتبعيض، بل المقصود جنس التماثيل على كل أشكالها.
((وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) والزور: هو الباطل، وله مصطلح شرعي وهو شهادة الزور، وهي أن يشهد الإنسان على شيء لم تره عينه ولم تسمعه أذنه، ولكنه كذب على الله وافترى فشهد الزور، والزور هنا الباطل بكل أشكاله: قول الشرك، وسباب المؤمن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر) والزور كلمة تجمع كل الكلمات التي لا يليق بالمؤمن أن يقولها وأن يعمل بها.
والله عز وجل قرن اجتناب الزور مع اجتناب الأوثان، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الزور، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فظل ﷺ يقول ذلك ويعيده حتى قال بعض الصحابة: تمنينا أن لو سكت، يعني: أنه أتعب نفسه وأجهدها وهم قد سمعوا وعلموا وأطاعوا.