تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله)
قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: ٣٤].
يقول تعالى: هذه المناسك التي تقومون بها: من سعي وطواف وقيام ومبيت في منى وإحرام وهدي وضحايا وقربات ونحوها ليست محصورة عليكم، وقد سبق أن كلفت الأمم قبلكم بذلك، فقد كان لها هدايا تتقرب بدمها إلى الله، ثم يستفيد منها القانع والمعتر والفقير والمحتاج.
قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا﴾ [الحج: ٣٤] أي: لكل أمة سابقة من الأمم ولكل جيل سابق من الأجيال، فقد كلفوا به من قبل أنبيائهم عن الله جل جلاله، فلكل هؤلاء منافع وضحايا وهدايا ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨] فالعقيدة واحدة، والدعوة إلى الله واحدة، دعا إليها الأنبياء منذ آدم أبينا إلى نبينا عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهم جميعاً دعوا إلى عبادة الله الواحد.
قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٣٤] أي: ليذكروا اسم الله خالصاً له وحده، ولا يشركوا به أحداً من خلقه كما يفعل المشركون وعباد الصليب والوثنيون، وإنما يذكرون الله وحده، ويتقربوا بالهدايا له وحده.
والبهيمة تشمل الأنعام، أي: الإبل والبقر والضأن، كما تشمل الدواب المركوبة من خيل ومن بغال ومن حمير، وهنا يراد بهما الأنعام فقط التي يؤكل لحمها، وتذبح ضحايا وقربات وهدايا.
قال تعالى: ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: ٣٤] أي: ليقدموها ويقربوا دمها هدايا لله، وليأكلوا من لحمها ويستفيدوا من ظهورها وينتفعوا بأشعارها وأوبارها، وليستنسلوا من ذكورها ففي كل ذلك منافع وخير لهم قبل أن يذبحوها وبعدما يذبحوها.
ولا يجوز ذبح الذبيحة ولا نحرها إلا مع ذكر اسم الله، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ذبح قال: (بسم الله، الله أكبر، عن محمد وأمته ممن لم يضح)، فإذا ضحى الثانية قال: (بسم الله، الله أكبر، عن محمد وآل محمد)، فهذه الضحايا تذبح وتنحر على اسم الله وحده، ويكبر عليها اسم الله وحده، لا كما كانوا يصنعون في الجاهلية من الذبح على غير اسم الله، أو كانوا يشركون مع اسم الله غيره.
فهذه المناسك والعبادات شرائع ومناهج، وقد جعل الله لكل نبي وأمة شريعة ومنهاجاً، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، والدعوة إلى الله واحدة، قال تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج: ٣٤]، فالشعوب والأمم جميعاً دعاهم رسلهم وأنبياؤهم إلى عبادة الله الواحد وإلى نبذ الشرك وترك عبادة غير الله، وما من رسول إلا وبعث بالتوحيد وبعبادة الله ونبذ الشرك والشركاء كما قال تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج: ٣٤] أي: لله الواحد استسلموا، وله يكون إسلامكم وعبادتكم وطاعتكم، لا شريك له لا في ذات ولا في صفة ولا في فعل، فمن فعل ذلك فقد فعل ما سولت له نفسه، وأوحى له به شيطانه، والأنبياء والرسل ما جاءوا جميعاً إلا بعبادة الله الواحد، بهذا جاء نبينا وقبله عيسى وقبلهما موسى وهكذا إلى النبي الأول آدم عليهم جميعاً سلام الله وصلواته، فلم يقل عيسى: اعبدوني ومريم مع الله، ولم يقل موسى لليهود: اعبدوا العجل واعبدوا العزير مع الله، ولم يقل للوثنيين: اعبدوا مع الله النار ولا الهوام ولا الملائكة ولا الناس، وما ذلك إلا افتراء على الله وكذب، وما أوحى به إلا الشياطين.
قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: ٣٤] أي: بشر المطيعين لك والمطيعين لربهم والمتواضعين لله ورسوله وللمؤمنين والمخلصين في عبادتهم، الذين لا يشركون بالله شركاً ظاهراً ولا خفياً، ومنه التظاهر أمام الناس ليروا العبادة، فذلك الشرك الخفي، بل لابد أن تكون عبادتهم في الظاهر وفي الخفاء لله الواحد، فلا يراءون ولا يتقربون إلا لله الواحد الأحد.
وبكل ذلك فسر المخبتون، فالمخبتون جمع مخبت، وقد فسر بالمتواضعين وبالمخلصين وبالمطيعين، وبالعاملين لله بما أمرهم وبترك ما نهاهم عنه، وقد عرفهم الله فلا حاجة إلى نزاع المفسرين في معناها.


الصفحة التالية
Icon