تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب)
قال تعالى عن الكافرين: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].
يقول تعالى لهؤلاء المكذبين: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يسيحوا ويسافروا وينتقلوا فيروا هذه القرى المدمرة، وهذه الديار المخربة والآبار الجافة القاحلة، وهذه الأشجار التي كأنها قد أحرقت، ألم يقولوا يوماً من الذي دمر هذا؟ ومن الذي خرب هذا؟ ومن الذي عطل هذه القصور المشيدة المنحوتة في الجبال، والمنحوتة في الأرض، وعطل قصوراً شاهقة في أجواء السماء تكاد تناطح السحاب، أفلا يخافون يوماً أن تدمر قراهم وتخرب دورهم ويذهبون كما ذهب هؤلاء في الأمس الدابر؟! وأرض ثمود في الحدود بيننا وبين الأردن وبين أرض الشام، وآثار الأمم السابقة في كل مكان في الأرض، فهذه أهرامات مصر، وهذه القصور المشيدة في العراق من أرض فارس قديماً، وهذه الحفريات التي تحفر كثيراً في أسوان، وفي الأرض كلها في أراضي المسلمين وغيرهم، فتجد هناك الآثار المدمرة والمخربة، وستجد الآثار التي بلغت من الحضارة والصناعة والرفاهية ما لم تبلغها حضارة أوروبا اليوم وأمريكا، هذه الحضارة التي تسمى حضارة عصر النور، فنقول لهؤلاء الذين يكذبون: هذه أهرامات مصر كيف بنيت ومن أشادها؟ هذه قصور بغداد والعراق كيف بنيت وقد مر عليها الآلاف من السنين كما مر على أهرامات مصر؟ وكيف جاءت هذه الصخرة التي على الكعبة؟ وكيف قطعت من الجبل؟ وكيف نحتت؟ وكيف حملت إلى أن وضعت؟ وكيف جعلت صخرة على صخرة؟ لم ذلك؟ ومن كان يسكن؟ وما هي أسرار ذلك؟ وقل مثل ذلك على كل الحفريات في الأرض، ألا ينبغي ويجب على هؤلاء الذين يسيحون في الأرض أن يعتبروا؟ فقد كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانوا يمرون على الكثير من هذه الآثار، ألم يفكروا يوماً أين ساكنوها؟ وأين ملوكها وحكامها الأقوياء؟ وبم دمروا وبم خربوا؟ ومن الذي دمرهم، ومن الذين خربهم؟ وكل هذه المنظورات والمرئيات مما تؤكد ما أتى به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يزيد المؤمن إيماناً، ويعظ الكافر لعله يوماً يقول: آمنت بالله، وقد صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به حق، وما جاء به واقع قد رأيناه رأي العين، وسمعناه سماع الأذن عن آبائنا وأجدادنا إلى اليوم الذي حدث ذلك، سمعناه في القرآن، وسمعناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعناه عن علمائنا.
فقوله: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يقطعوا الأرض يوماً سواحاً أو تجاراً؟ ولا شك أنهم قد فعلوا ذلك، قال تعالى: ﴿لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ [قريش: ١ - ٢]، فكانت لهم رحلتان في السنة: رحلة شتوية ورحلة صيفية، وكانوا يمرون على هذه الآثار ويقولون: ومن الذي دمر؟ من الذي خرب؟ أليس هذا الذي جاء في القرآن الكريم ونطق به محمد صلى الله عليه وسلم؟ بلى.
ولذلك قال الله لهم: هذه ذكرى لهم ولكل دعي للإيمان بالله وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته خوطب بها كل الناس لا العرب وحدهم، ولا العجم وحدهم، ولا أهل المشرق وحدهم، بل كل العالمين منذ البعثة المحمدية، ومنذ أن وقف محمد ﷺ في هذه الأرض المقدسة وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩]، ولذلك فكل ما خوطب به الكفار هو خطاب للناس كلهم، وكل ما خوطب به المؤمنين فللناس كلهم.
قال تعالى: ((فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)) أي: أليست لهم عقول يعقلون بها ويعون ويفهمون ويدركون ويعلمون؟ وإذا لم يسمعوا منك وعما أنزل إليك من القرآن الكريم، ألم يمروا على هذه الآثار وعلى هذه القرى والمدائن ويروا فيها ما قصصناه عليك من التدمير والتخريب لهؤلاء؟ أليست لهم عقول تعقل؟ أليست لهم قلوب تدرك؟ قال تعالى: ((أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)) أليست لهم آذان يسمعون بها عن هذا، عندما يقفون في مشارف القرية ويبهر زوارها والساكنون حواليها متى حدث هذا؟ وما هي أسبابه؟ وتسمعون الكثير عن آبائهم وأجدادهم إلى العصر الذي حدث فيه ذلك.
وأنتم إذا سمعتم ألا تعون وتستفيدون بالسمع؟ وإذا عقلتم ورأيتم ألا تستفيدون بالنظر والوعي؟ قال الله عنهم: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))، وليس البصر في عماه ضاراً بالمؤمن، ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية، فيمكن أن يعي ويعقل ويدرك، ولكن البلاء من عميت بصيرته وقلبه، فتجده ينظر إليك ولكنه لا يرى، ويسمع منك ولكنه لا يسمع، أي: لا يستفيد برؤيا ولا يستفيد بسمع ولا يستفيد بوعي ولا يستفيد بإدراك.
فلهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل؛ لأن الأنعام لها كلمات تفهمها عنك، فإن أردت للحمار أن يمشي، أو أردت أن يقف، أو أردت أن يأكل، أو أردت أن يشرب وهكذا، فإنه يفهم عنك ذلك.
وأما هؤلاء فهم أضل من الأنعام وأقبح؛ لأن الأنعام يستفاد من بطونها ومن ظهورها، ومن أوبارها وأشعارها، أما هؤلاء فيكونون على الأرض ضياعاً وثقلاً، ضررهم أقرب من نفعهم ولا فائدة منهم لأحد، بل هم للشر وللفساد ولإضلال الصالحين ولإضلال الهادين المهديين.
والذي عمي قلبه وعميت بصيرته هذا الذي يكون قد عمي العمى الحق، إذ لا يستفيد من بصر ولا سمع ولا قلب، ولا يستفيد في دنياه ولا في آخرته، قال تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] فهو عمى مسترسل قلبي، ومن كان كذلك فهو ميئوس منه ومن فائدته ومن مستقبله ومن خيره.


الصفحة التالية
Icon