تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: ٧٠].
أي: ألم تعلم يا محمد! -وقد علمت قبل- بأن الله يعلم ما في السماء والأرض قبل خلقهما، وهو العالم بالخفايا، العالم بالسر وأخفى، وقد علم ذلك رسول الله ﷺ من خلال ما حدثنا به من أحاديث صحاح وردت في الصحاح وفي السنن وفي المعاجم وفي المسانيد عن جماعة من الصحابة، تبين الآية وتفسرها، فمن ذلك ما قاله ﷺ كما في الصحيح: (إن الله قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف عام كتب ما سيكون في اللوح المحفوظ).
وعن جماعة من الصحابة قالوا: قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون إلى قيام الساعة).
فجرى القلم بما أمره الله به، وكان ذلك قبل خلق السماء والأرض بخمسين ألف عام، حدثنا بهذا رسول الله عليه الصلاة السلام، وبه علمنا أنه علم ما قاله الله له.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الحج: ٧٠] قد علم ذلك بتعليم الله له، فهو الذي علمه، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧].
وفي الحديث المتواتر عن جمهور من الصحابة أن النبي ﷺ خطب يوماً بعد صلاة الصبح، أي: صلى صلاة الصبح وصعد المنبر، فخطب فظل يخطب إلى أذان الظهر، فنزل وصلى ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان العصر، فنزل وصلى العصر ثم صعد المنبر فظل يخطب إلى أذان المغرب، قال رواة الحديث: فحدثنا رسول الله ﷺ بما كان وما سيكون منذ خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يبعث الله الناس إلى جنة أو إلى نار.
وقال بعض الرواة الذين منهم عمر وعلي وأبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، وكاتم أسرار رسول ﷺ حذيفة بن اليمان وغيرهم، قال بعضهم: حدثنا بكل شيء حتى بالطائر يطير بجناحين في السماء، وحدثنا حتى بقائد الفتنة متى سيخرج وما اسمه واسم أبيه، ومن سيكون معه، ما ترك شيئاً إلا وذكرنا به.
وهذه الأحاديث موجودة معلومة في الكتب الستة: عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وعند أحمد في المسند، وعند البزار في المسند، وعند أبي يعلى الموصلي في المسند، وفي معاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، ولا يكاد يوجد كتاب من أمهات السنة إلا وفيه ذلك، ومنهم من خصص هذا بالتأليف، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الحج: ٧٠].
قد علم وعلمنا -ونحن نعلم بعلم رسول الله في سنته- أن الله كتب كل ما خلقه قبل خلقه بخمسين ألف عام، وأن ذلك في اللوح المحفوظ.
وكما سبق أن قلت في مناسبات: إن اللوح لوحان: لوح من قبل الحق، ولوح من قبل الملائكة جند الله، فاللوح الذي من قبل الحق لا يراه أحد لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو الذي قال الله عنه: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩]، وهذا لا يبدل ما فيه ولا يغير.
واللوح المحفوظ الذي من قبل الملائكة؛ يأتي كل من كلف منهم بعمل فيرى عمله مكتوباً فينفذه ويمتثله، وهذا يقول الله عنه: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]، فعنده اللوح الأم المحفوظ المرجع لهذا، وذاك لا يبدل القول لديه جل جلاله ولا يغير، وهذا يمحو الله ما يشاء فيه ويثبت.
فالدعاء يمحو، وكل شيء إذا أراد الله جل جلاله أن يمحيه محاه، وذاك أصل الناسخ والمنسوخ، قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦].
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾ [الحج: ٧٠] أي: أن علم الله -علم السماوات وعلم الأرض- في الكتاب وفي اللوح المحفوظ عند الله، كتبه القلم مأموراً من الله قبل خلق الخلق بخمسين ألف عام، ولا ندري هل الألف يوم هي من أيام الأرض: اليوم واحد أربع وعشرون ساعة، أو من أيام الآخرة الذي اليوم فيه كألف سنة مما تعدون؟ ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: ٧٠].
علم الأولين والآخرين، وعلم السماوات والأرضين، وعلم ما كان وما يكون إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة، علم ذلك يسير على الله، والكل على الله يسير، فلا يصعب عليه شيء، ولا يعز عليه شيء جل جلاله وعلا مقامه.