تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣].
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [الحج: ٧٣] الخطاب هنا للناس كلهم، وما كان خطاباً للناس فهو خطاب للمؤمن والكافر والمنافق، وهذه الآية أعظم آية في القرآن في إذلال المشركين وتحقيرهم، وضرب المثل والواضح نظراً وسمعاً ودليلاً وبرهاناً على سخف عقول الظالمين المشركين الضالين المضلين.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] فالله يلفت الأنظار لسماع هذه الآية، فيبتدئها بنداء كل الناس، ثم يقول لهم: أعيروني آذانكم لتسمعوا ضرب الأمثال لهؤلاء المشركين الضالين المضلين.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣].
ضرب شبه بكم وبأصنامكم، بكم عابدين وبأصنامكم معبودين، انظروا إلى هذا المثل، يقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣].
يا من له عقل أو لا عقل له ممن يتصرف بحواسه سمعاً وبصراً وقلباً وممن عميت منهم البصائر قبل الأبصار، انظروا واسمعوا وفكروا وعوا، لهذا المثل الذي يضرب بكم وبمعبوديكم.
﴿ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] أي: من تعبدونهم مع الله أو دون الله من ملك أو أنس أو جن، وما بالك بحجر وجماد وخشب وحيوان وما إلى ذلك، لو اجتمع هؤلاء كلهم ملائكة وإنساً وجناً متعاونين متكاتفين متواطئين متآمرين على أن يخلقوا ذباباً فلن يستطيعوا ذلك، فهم أعجز من ذلك.
﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] أي: لو اجتمعوا جناً وإنساً وملكاً، وكل ما على الأرض سوى الله ليخلقوا ذباباً وليوجدوه من العدم لما استطاعوا ولما قدروا.
وأعظم من ذلك تحقيراً لهم عبدة وعابدين قوله: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: ٧٣] أي: لو يأتي الذباب إلى فتات حبة ثم يأخذها ويذهب بها فلن يستطيعوا ملاحقته ليستنقذوا ذلك منه، ولن يستطيعوا إنقاذ شيء أخذه.
﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] أي: ضعف وعجز الطالب وهو العابد للأصنام، والمطلوب: المعبودات من الأصنام، سواء كانت الأصنام ملائكة أو بشراً أو جناً، والذباب جمع ذبابة، ويجمع جمع تصغير أذبة، وجمع تكسير ذبان، والذباب كذلك يطلق على الفرد وعلى الجماعة، والذبابة معروفة، ولو كان هناك ما هو أحقر من الذباب لذكره الله.
ونحن نرى الآن في هذا العصر الذي يسمونه عصر الحضارة والمخترعات لم يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة في حضارتهم، فالطيارة مثلاً وهي أعظم شيء وجد إذا نظرنا إلى مكوناتها: خشب لم يخلقوه، وحديد لم يخلقوه، وأكثر من ذلك هذه اليد البشرية، وهذا العقل البشري الذي فكر في صنع الطائرة، واليد التي صنعت الطائرة، هل هم الذين خلقوا الأيدي؟! وإذا ذهبت الأيادي فهل يستطيعون الإتيان بمثلها، وهذا العقل الذي به صنعت تلك الطائرة إذا أخذه الله فهل يستطيعون أن يأتون بعقل غيره ليصنع ذلك؟! ومع ذلك هذه الصناعة على ما تدهش الناس ويستغربها الناس وأشركوا بها دون الله، فهل هناك شيء أخترع وأوجد من عدم وكان غير موجود، إنما هو ترقيع، وهو جمع، كمن يأتي إلى حب، هذا الحب خلقه الله في الأرض التي لم نخلقها نحن، بالماء الذي لم نخلقه نحن، بالسماد الذي لم نخلقه نحن، فاستطعنا أن نصنع من هذا الحب حلوى، وأن نصنع منه خبزاً، وأن نصنع منه سميداً أو ما إلى ذلك، فهذا لا يعني أننا أوجدناه؛ لأن أصل الحب أوجده الله.
إذاًَ البشر والخلق كلهم: ملائكة وبشراً وجناً وكل ما على الأرض من إنسان وحيوان وهوام كلها أعجز من أن تصنع ذباباً، أو أن توجد ذبابة، لم يكن لهم أن يوجدوها من العدم، وإن كان ضرب المثل بأذل شيء وأحقر شيء فما بالك بما هو أعظم.
ومثل هذا الذي اغتر بحضارته لم يستطع أن يقضي على الموت ولا على الشيخوخة، ولا استطاع أن يخلد مع الخالدين.
وهذا عندما يقوله الله جل جلاله في العصر الأول فهو يبقى في كل العصور إلى يوم قيام الساعة، فأي إنسان عبدوه، وأي ملك عبدوه، وأي جن عبدوه لا يستطيع أن يخلق شيئاً، ولا أن ينفع ولا يضر نفسه.
ودليلهم وحجتهم في عبادتهم أن قالوا: ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]، ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣]، وجدنا آبائنا كانوا يصنعون ذلك، فقلدوا آباءهم في الكفر، فزادوا بذلك ضلالاً، وزادوا بذلك كفراناً وجحوداً.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣]، أي: عجز الطالب العابد، وعجز المطلوب المعبود من الأصنام دون الله، فهؤلاء أضعف وأعجز وأقل وأذل من أن يخلقوا شيئاً، ولو كان ذباًباً، ولو تكاتفوا واجتمعوا جميعاً ليوجدوا ذلك، فقد ضعف العابد والمعبود، ولن يكون ذلك إلا صفة للخالق الذي يوجد الشيء من العدم، فهو الذي ينشئ الشيء ولم يكن ثم يصبح فيكون.
قال تعالى: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٧٤].
فهؤلاء الضعفة والعجزة من العابدين المشركين، والمعبودين من الأصنام، كانوا أحياء أو كانوا جمادات: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الحج: ٧٤] أي: ما علموا قدرته ولا قدروها، وما قدروا وحدانيته ولا عرفوها، وما قدروا صفاته العلا وأسماءه الحسنى.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠] قوي على كل شيء، قادر على كل شيء، ومن قوته معاقبته لهؤلاء الكفرة الجاحدين الذين يأبون إلا الشرك، ونزع الحق من أهله، والله عزيز لا يغالب، عظيم لا يبارى، ومن يتأله على الله يكذبه.


الصفحة التالية
Icon