تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا)
قال الله جلت قدرته: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٥ - ٤٨].
بعد أن قص الله علينا قصص أمم وقرون مضت وأجمل القول في ذكر أنبيائهم ورسلهم ورسالاتهم والكتب المنزلة عليهم، فقد أبوا جميعاً إلا الكفر وتكذيب كتاب ربهم وتكذيب رسله، وكانت حجتهم التي يكادون يتواطئون عليها: كيف يؤمنون ببشر مثلهم؟ فلم لا يكون الرسل ملائكة يمشون على الأرض؟ ولو كانوا ملائكة لكانوا بشراً، ثم لكذبوهم ولما آمنوا بهم.
ثم قص الله جل جلاله علينا باختصار سبق تفصيله وبيانه وسبقت جزئياته: قصة إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون وقومه وقومهم من بني إسرائيل.
فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ ثم أرسل الله موسى وجعله رسولاً مبلغاً عنه لرسالته، ومبلغاً لكتابه، وعززه وجعل معه أخاه هارون وزيراً، وقد طلبه موسى للكنة كانت في لسانه، إذ كان هارون أفصح منه بياناً، وأقدر على التعبير عما في نفسه وما يريد قوله بفصيح العبارة وبليغها، فاستجاب الله له، وكانت أخوة موسى لهارون لم يسبق ولم يأت بعدها مثلها، فقد دعا لأخيه بأن يكون رسولاً، فاستجاب الله له، فارتفع هارون من كونه بشراً عادياً إلى رسول ونبي كريم.
فأرسل الله موسى وهارون معاً بآياته لبيان الذي يمكن أن يقبله كل من وفق للخير وألهم الإيمان، ولكن فرعون الذي أرسل إليه هذان النبيان الكريمان كان من الكفر هو وقومه ومن الإصرار عليه بما تندى له الجباه، ولم يؤمنوا على كثرة ما رأوا من الآيات البينات والمعجزات الواضحات مما أتى به موسى وهارون، فقد أتيا بالآيات بقدرة الله جل جلاله على ما لم يقدر عليه سواه، مما أكد صدقهما، وأنهما الرسولان الصادقان الكريمان، وأنهما أتيا من الله رسولين بآيات واضحات، وسلطان مبين، ودليل وبرهان واضح بين ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولمن فتح أذنه، وشرح صدره لقبول الهداية والرسالة.
وقد أرسلهما الله إلى فرعون المتأله الذي أبى إلا أن يستخف قومه ويدعي الألوهية عجزاً وسفهاً، محتجاً بأن له ملك مصر، وأن الأنهار تجري من تحته.
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [المؤمنون: ٤٥ - ٤٦].
أي: أرسلهما ليقولا لفرعون: ﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: ٤٧]، وإذا به يأبى هو وقومه، واستعبد هو وقومه بني إسرائيل، فقتلوا الشباب واستحيوا النساء، واستخدموهن فيما لا يكاد يطيقه الحيوان الأعجم على ما له من قدرة ومن قوة، ومع هذا أبى فرعون وملؤه أن يستجيبوا لموسى وهارون.
((إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا)) أي: تعالوا على الحق، واستكبروا على موسى، وظنوا أن لهم شأناً وأن لهم قدراً وأن لهم مكانة، واغتروا بما معهم من سلطان زائل ومال ونشب غير باق، وهكذا غروا، وغر بعضهم بعضاً إلى أن عاقبهم الله، فدمرهم وأغرقهم، وملّك ديارهم وسلطانهم لموسى وهارون وملئهما.
((فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)) استكبر فرعون وقومه وتعاظموا وتعالوا واستنكفوا (وكانوا قوماً عالين) طغاة جبابرة يأبون الحق والخضوع له، ويأبون قبول الهداية بدليلها وبسلطانها وببرهانها، وكانت حجتهم هي حجة من سبقهم من الأمم السابقة الكافرة المشركة التي أبت إلا كفوراً وأبت إلا عصياناً، فقال فرعون وملؤه: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ أي: كيف يتصور -وهذا في عقولهم الزائفة السخيفة- أن يرسل لهم بشراً مثلهم؟! ولو كان موسى أول رسول ولو كان هارون أول نبي لقلنا إن القوم جهلوا ولم يروا هذا في سابق الدهور والأزمان، ولكن الأمر ليس كذلك فقد أرسل الله قبلهم رسلاً وأرسل نبيئين، فبلغوا الرسالة، وهدوا القوم منذ آدم إلى إدريس فنوح فإبراهيم فسلالته من إسماعيل وإسحاق إلى موسى وهارون، فلم يكونا بدعاً من الرسل ولا بدعاً من الأنبياء.
ولقد كان الكل بشراً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج النساء، ويولدهن الذراري والأسباط والأولاد، فما العجب هنا أن يكونا بشرين؟ ولكنهم مع ذلك أصروا على هذا، وظنوه دليلاً وبرهاناً فقالوا: (أنؤمن)؟ فهم يستنكرون باستفهام استنكاري يعود عليهم وباله، ويعود عليهم جهله، ويعود عليهم ذله.
((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)) أي: يأكلون كما نأكل، ويتناكحون كما نتناكح، ويتوالدون كما نتوالد، أيمكن أن يكون هذا؟ واطمأنوا لهذا الدليل السخيف الذي يدل على أنهم عطلوا عقولهم عن الفهم والإدراك والوعي.
((أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ))، وزادوا هنا على قولهم السابق: أن هؤلاء هم من عشيرة ومن قوم هم لنا عبيد، فزادوا واحتجوا بما ظلموا به القوم فاستعبدوهم وجعلوا منهم السراري، وجعلوا منهم العبيد، ولم يكونوا قبل كذلك، وهذا من طغيان الفراعنة، ومن طغيان القبط، وهو من طغيان الكفرة المشركين، وموسى وهارون يتحملان ذلك منهم، والله يعززهم ويؤيدهم بالمعجزة بعد المعجزة، وبالقدرة بعد القدرة، وما يزدادون بذلك إلا عتواً وفساداً في الأرض.