تفسير قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين)
قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٥٤].
أي: ذرهم يا محمد! وما على الرسول إلا البلاغ، فأنت بلغ وادعهم إلى ربك، واتل عليهم الكتاب المنزل عليك، وبين لهم الرسالة التي أرسلت بها، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع حريصاً على أن يشهد هؤلاء الخلق الذين دعاهم، وأرسل رسله إلى جميع أقاليم جزيرة العرب، وكانت وحدها إذ ذاك التي أسلمت ولم يخرج الإسلام بعد عن حدود الجزيرة، فأعلموهم أن النبي محمداً سيحج هذا العام، فحضر مائة وعشرون ألف حاج بين رجل وامرأة، وبين شيخ وطفل، فخطب فيهم خطبة حجة الوداع عند جبل الرحمة في آخر يوم عرفة، وهو يشهد الله ويشهدهم، فقال لهم: (هل بلغت؟ قالوا: نعم، اللهم قد بلغت وأبررت وأحسنت)، فكان عليه الصلاة والسلام يرفع أصبعه السبابة إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) أي: اشهد على هؤلاء أني قد بلغتهم ما أرسلتني به: من رسالة، ومن كتاب، ومن هداية، ومن دين، وأما الهداية فليست في يد أحد من الخلق، قال تعالى لخاتم الأنبياء: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢].
وهكذا عرض الله جل جلاله على خاتم أنبيائه قصص الكافرين ومواقفهم من الشرك والإصرار على الشرك، والتكذيب لأنبيائهم، وهددهم وتوعدهم، ثم قال له بعد أن أمر بتبليغ الرسالة: ((فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)) أي: دعهم واتركهم وتخل عنهم، ((فِي غَمْرَتِهِمْ)) في ضلالهم، وفي ضياعهم، وفي هرائهم، وفي ظلمتهم التي يعيشون فيها، ((حَتَّى حِينٍ)) أي: إلى وقت لا محالة في مجيئه، وهو يوم موتهم وهلاكهم، وهو يوم عرضهم على الله ليحاسب كل بما قدمت يداه: إن خيراً فخير وإن شراً فشر.