تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)
قال تعالى: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٣].
يقول الله عن هؤلاء الكافرين والمشركين والجاحدين: ليس الأمر معصية وخلافاً فقط، بل قلوبهم لم يفتحوها للإيمان، ولم يعوا ما يقول لهم نبيهم، ولم يعوا ما يقول لهم كتاب ربهم، فقلوبهم في غمرة، وفي ضلال وفي عماية وفي غواية، فلهم قلوب لا يعقلون بها، فلا وعي ولا فهم ولا إدراك؛ لأنهم لا يريدون ذلك، فزادهم ذلك عماية وضلالة، وزادت قلوبهم ركساً وجهلاً وتعمقاً في الباطل.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ)) غمرة وجهل، وغمرة عدم إدراك ووعي.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا)) أي: من كتاب الله ومن نبي الله محمد صلى الله عليه وعلى آله، ومن الدين الحق هذا، فالإشارة هنا تتناول الإسلام والقرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى بكل ذلك صحيح، وبكل ذلك تتم الآية معنىً ومبنىً.
((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ)) فهؤلاء الكفرة ليست ذنوبهم الكفر فقط، بل لهم أعمال أخرى سيئة زيادة على الكفر: من سرقة، وزنا وفساد، ورباً، وأكل أموال الناس بالباطل، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، ونكران الحق، والوقوف في وجهه، وبهذه الفقرة في هذه الآية الكريمة نعلم أن الحق مع من قال بأن الشرائع كلياتها وجزئياتها يخاطب بها المؤمن والكافر.
فأما المؤمن فتقبل منه إن أداها كما هي شرائط وواجبات وسنناً، وأما الكافر فالإيمان شرط في العمل وشرط في قبوله، فلا تقبل صلاة ولا زكاة ولا إحسان إلا ممن آمن بالله أولاً؛ لأن العمل هو لله، فمن أشرك فهو لمن يصلي، ولمن يزكي، ولمن يصوم، ومن يعبد، فهو لم يؤمن بالله الواحد، بل أشرك معه غيره، ومن أشرك بالله فعمله لشركاء الله، ولا يقبل الله من العبادة إلا ما كان خالصاً له.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ)) أي: لهؤلاء الكفرة الجاحدين المشركين أعمال زيادة على الكفر: من سرقات وفجور وكذب وهتك أعراض واستباحة دماء، فهم يوم القيامة سيحاسبون على كل ذلك، فيحاسبون على الإيمان بالله الواحد، ثم يحاسبون على جزئيات الشريعة فيما أمر الله به ولم يقوموا به، أو قاموا به أو ببعضه لا لله ولكن لمعان أخرى في أنفسهم.
وفي إحدى الغزوات رأى الصحابة رجلاً أظهر من الشجاعة ومن البلاء ومن الحرص على قتل أعداء الله من الكافرين الشيء العجيب، وإذا به يسقط جريحاً، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (هو في النار، فعجبوا لذلك، فقالوا في أنفسهم: إن كان هذا مع جهاده ومع بلائه ومع قتاله ومع شجاعته نهاية إلى النار! فكيف يكون حالنا؟! ومن الذي سيدخل الجنة بعد ذلك؟! وإذا بهم يأتون إلى هذا الجريح وهو يحتضر ويجود بنفسه، فقالوا له: يا فلان هنيئاً لك الجنة، قال: أي جنة! والله لا أقاتل لدين، ولا أقاتل لنبي، وإنما أقاتل حمية عن العشيرة، وحمية عن البلد)، كما يقال اليوم: وطنية وقومية، وهناك علموا أن الرجل كافر لا يؤمن برب ولا يؤمن بنبي ولا يؤمن بكتاب، وإنما دفعه لما دفعه إليه معان أخرى لا صلة لها بإسلام، ولا صلة لها بطاعة، ولا صلة لها برب ولا نبي، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل للغنيمة، والرجل يقاتل ليقال شجاع، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله)، وهكذا: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الشرك فلا عمل له سوى الشرك، ومن نوى الإيمان والإسلام فهو وعمله، فإن كانت النية صالحة وقام بالأعمال بشرائطها وواجباتها فله أجره وله ثوابه.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)) أي: قائمون بها يعملونها زيادة على الشرك وزيادة على الكفر، فليسوا فقط كافرين في أنفسهم، ولكنهم عملوا بمقتضى كفرهم، فحاربوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا الأصحاب، وحاربوا المؤمنين، وحاربوا الدعاة إلى الله، وارتكبوا من الآثام ومن الجرائم ومن المخاطر ما هو مكتوب في صحائفهم، ومسجل في الكتاب الذي عند الله، الذي سينشر يوم العرض عليه.
((وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)) أي: لهؤلاء المشركين سوى الشرك أعمال جاحدة وأعمال فاسقة سيحاسبون عليها، فهم قائمون بها وعاملون لها.