تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول)
قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٦٨].
الكلام هنا لقريش، ولكن كما يقول علماء الأصول: العبرة بعموم اللفظ، فالخطاب كان وسيبقى إلى يوم البعث والنشور خطاباً لكل كافر كان على شكل أولئك الذين عاصروا رسول الله ﷺ من الكافرين، والكلام سوف يبقى كما أنزل خطاباً لكل مسلم، فللمؤمن الجنة وللكافر النار، فإذا قال ربنا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [البقرة: ٢١] فهو خطاب للمؤمن والكافر، وإذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٠٤] فهو خطاب للؤمن وحده.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)) أي: هل هؤلاء أصابتهم البلادة، وأصابهم العجز عن الفهم وتقدير المعنى وتدبره وفهمه؟ كيف لم يدبروا ولم يفهموا ولم يعوا ما أنزل عليهم من كتاب؟ فهو خير الكتب للناس، وخاتم الكتب للناس، فيه ذكرهم، وفيه تعليمهم، وفيه هدايتهم، وفيه ما يجعلهم سادة الدنيا وأئمتها وحكامها.
أفلم يدبروا كلام نبيهم ويفهموا قوله وهو يخاطبهم بلغتهم ولهجتهم، وهو منهم وإليهم، حسباً ونسباً؟ كيف جهلوا كل ذلك؟ فهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي، فيوبخهم الله ويقرعهم كيف مع فصاحتهم وبلاغتهم ومع ذكائهم جهلوا وتبلدوا؟ فقد صار حسهم مطبوعاً طبع الحمر التي لا تعي ولا تدرك.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)) أي: قول الله وقول رسوله، وقول الحق والمنطق.
((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) أو لأنه قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين من رسالة، ومن نبوءة، ومن كتاب، ومن وحي، أهذه علة للكفر، أو يجب أن تكون علة للإيمان في كونهم كرموا بين الآباء والأجداد بأن أرسل إليهم، وبأن شرفوا بذكرهم، وبأن شرفوا بالنبي منهم وإليهم، وبأن شرفوا بأن يقوموا برسالة ينشرونها في الأرض وهم سادتها ومعلموها وناشروها كما كان بعد؟ ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) ما لم يأت آباءهم من رسالة ومن نبوءة ومن كتاب، وقد فسروا (أم) هنا بمعنى بل، ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ)) بل جاءهم، ولا حاجة لهذا التأويل.
فالله تعالى يمتن عليهم بأنهم قد جاءهم من الخصائص ومن التشريف ومن التكريم ما لم يكرم به الآباء ولم يشرف به الأجداد، فجعل منهم نبياً من أوساطهم، ومن أشرافهم، من أوسطهم وأعلاهم شرفاً، يعرفون صدقه وأمانته، ويعرفون نشأته وصباه وشبوبيته، وقد جاءهم برسالة عن الله فكيف جهلوه؟ وكيف أعرضوا عنه؟ وكيف ابتعدوا عنه؟ ((أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) وهذا الاستفهام إنكاري أن آباءهم لم تأتهم نبوءة ولم تأتهم رسالة، ولأول مرة أتى العرب رسول ونبي وكتاب.
ومن هنا فأهل الجاهلية لا يعذبون، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وما بعث رسولاً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله للعرب رسول، ومن هنا يؤكد القرآن: ((أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)) أي: عوضاً عن أن يشكروا هذه النعمة، وهذا الشرف، وهذه الخصيصة اتخذوها كفراً وجحوداً، وقد خصصوا بما لم يخص به الآباء والأجداد.


الصفحة التالية
Icon