تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)
قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٩].
أي: ما بال هؤلاء أين ضاعت عقولهم؟ وأين ضاع ذكاؤهم؟ وأين ضاعت فطنتهم؟ ألم يعرفوا هذا الرسول؟! ((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)) كيف أنكروه وجهلوه وهو منهم وإليهم؟ فقد علموا ولادته، وعرفوا صباه، ونشأ بينهم، واشتهر بينهم باسم الصادق الأمين، وعلموا صدقه، وعلموا أمانته، حتى إن أبا سفيان بن حرب وكان زعيم الكفر وزعيم الشرك في مكة ذهب إلى الشام في تجارة، فسأل هرقل ملك الروم عن هذا النبي العربي الذي يزعم أنه نبي وأنه رسول للناس كافة، فسأل أن يؤتى له بمن هو قريب من العرب إلى النبي صلى الله عليه، فوجدوا أبا سفيان الذي هو أيضاً من قريش ومن أهل مكة ومن بيوتاتهم الكبيرة، فأتي به ومعه جماعة من أصحابه أيضاً من قريش، فأوقف هرقل أبا سفيان أمام وأصحابه خلف، وقال لـ أبي سفيان: أنا سائلك أسئلة فأجبني بالصدق، وقال لمن خلفه: إذا كذب فأشيروا لي برءوسكم حتى لا يتحرجوا مع زعيمهم، ولكن من خصائص العرب أنها لا تكذب، هكذا كانت أخلاقها حتى في الجاهلية، فـ أبو سفيان على عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى حربه له وحقده عليه، عندما سأله هرقل أجاب بالأجوبة التي يعتقدها الحق، فسأله أيصدق؟ وسأله أيخلص؟ وسأله إذا عاهدكم أيفي؟ قال: نعم، ونحن الآن على عهد، وكانت حينئذٍ غزوة الحديبية، ولا ندري ما هو فاعل، قال أبو سفيان: لم أجد كلمة أدخل فيها إلا هذه، قلت: هو يفي، ولكن العهد قد قام الآن فلا ندري هل سيفي مستقبلاً أم لا، فكان مما سأله: هل تعرفونه قبل؟ قال: نعم، قال: ماذا تعرفون؟ قال: نعرف ولادته، ونعرف أبوته، ونعرف أمومته، وعرف بيننا بالأمانة وبالصديق، قال: هل كان يكذب؟ قال: لا، قال: هل كان أحد من آبائه يدعي ذلك أو يزعمه؟ قال: لا، وإذا بـ هرقل يقول له: من عاش بينكم هذه المدة الطويلة ولم يكذب على الناس جدير ألا يكذب على الله، ومن ليس في آبائه وأجداده من ادعى هذه الدعوى فلا نقول عنه: قام ليطالب بشيء سبق أن طالب به آباؤه وأجداده، وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عرف عند هدم الكعبة برأيه السديد، وعرف عند حلف الفضول برأيه السديد، وعرف عندما أراد أن يحضر ولا يزال شاباً صغيراً يافعاً إلى أحد أعراس مكة وإذا بالنوم يغلبه، فلا يرى مما يفعله الجاهلية شيئاً، يقول: (ولم أشعر إلا وحر الشمس على ظهري)، حدث هذا مرتين، وكانت له إرهاصات.
وهكذا جعفر بن أبي طالب عندما هاجر للحبشة بزعامة المهاجرين الأول سأله النجاشي عن هذا الذي يقول إنه نبي: أتعرفونه؟ قال: نعم، نعرف أمانته ونعرف صدقه ونعرف نشأته ونعرف أبوته ونعرف أجداده، وهكذا قال المغيرة بن شعبة عندما ذهب للتفاوض في حرب الفرس مع نائب كسرى، فسأله: أتعرفون محمداً هذا الذي كان يدعوكم لنبوءته ورسالته؟ وقد حدث هذا في خلافة عمر، قال: نعم نعرف صدقه ونعرف أمانته.
وهكذا يقول الله لهم: ((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ))، أهؤلاء أنكروا نبوءة محمد وصدق محمد ورسالة محمد؛ لأنه رجل مجهول لديهم، ونكرة عندهم، فلا يعرفونه وظنوا فيه الظنون، وتوهموا فيه الأوهام؟! فهو استفهام إنكاري توبيخي بأن الأمر لم يكن كذلك، فهم جميعاً يعرفونه، فهو ابن وحفيد سيد مكة، وسيد جزيرة العرب عبد المطلب الذي كان موضع الإجلال، وموضع الإكرام، وموضع الاحترام من جميع أهل مكة، وكذلك كان والده الشاب عبد الله على صغره وعدم طول حياته ما كان يعرف إلا بالجد بينهم، وهكذا أمه آمنة، فلقد كان ﷺ من بيئة صادقة، ومن بيئة معروفة بالصدق وبالأمانة وبالشرف وبالذكر، وعرفوا النبي ﷺ خلال الأربعين عاماً قبل الهجرة بالصدق والأمانة، أفهذا الذي كان لا يكذب على الخلق وعلى الناس لمدة أربعين عاماً أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشى لله، هذا لا يقبله منطق العقل، ولا منطق الفهم، ولا منطق الناس.
((أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)) أي: جاهلون، وشأن المجهول أن ينكر، ولم يكن نبيهم مجهولاً.
ومن هنا فعلماء الجرح والتعديل إذا وجدوا في السند مجهولاً عطلوا العمل به، وأوقفوه إلى أن يعرف، فإن بقي مجهولاً سقط السند والمتن والعمل به.