تفسير قوله تعالى: (أم يقولون به جنة)
قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٠].
أو يعرفونه ولكنهم اتهموه بالجنون، فقالوا: تارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة وتارة، أصحيح هذا؟ ليس الأمر كذلك، وإنما قالوها شتيمة، وقالوها انتقاصاً ولم يقولوها عن يقين، فهم كانوا يعلمون منه العاقبة النبيلة، فقد كان وهو في شبيبته سبباً لتوائمهم ولتآخيهم، فقد كادوا يتقاتلون عندما أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه بعد أن بنوه وقد خربته السيول، فأخذوا يتنازعون من الذي سيحصل على شرف رفعه من الأرض إلى مكانه من الركن، وإذا بواحد منهم يقول: مادمتم لم تتفقوا على واحد منكم فلنحكم أول آت، وإذا بالآتي هو محمد صلى الله عليه وعلى آله، فقالوا: حكمناك، وكل قد سروا لما يعلمون من عقله ومن فكره وحسن تدبيره، فقالوا: يا محمد إن قومك كادوا يشهرون السيوف في وجوه بعضهم؛ لشرف وضع هذا الحجر في مكانه فماذا تقترح؟ فقال: ائتوني بثوب، فأتوه بثوب، ورفعه بيده الشريفة ووضعه عليه، وقال: ليتقدم واحد من كل فخذ من كل قبيلة من قبائل قريش، ومن قبائل العرب الموجودة في مكة، فحضروا وحملوه معه، فنالوا جميعاً شرف رفع الحجر، وإذا به بعد ذلك يحمله بيده ويضعه في مكانه، وهدأت الناهرة، وسكتت الثائرة، وعادوا للإخوة والمودة.
وحضر معهم ﷺ حلف الفضول، وحلف الفضول: أنه جاء رجل من الخارج عرض تجارة فأخذت ولم يأخذ أثمانها، فوقف يصيح: يا لقريش، يا عبد المطلب يا لفلان يا لفلان، أأظلم بينكم وتؤخذ أموالي ولا آخذ ثمنها؟ وإذا بكبرائهم يتنادون ويجتمعون في دار الندوة التي هي الآن الصفا والمروة، وكان برلمانهم وموضع شوراهم، وموضع مفاوضاتهم وكلامهم، فحضروا واتفقوا جميعاً وكانوا في ذلك متفضلين، أي: اجتمعوا من غير أمر يأمرهم به أحد.
وحضر معهم ﷺ فزكى وأيد عملهم، وشجعهم عليه، وهو في العشرين أو تجاوزها بقليل، وقد قال في النبوءة عليه الصلاة والسلام: (لقد حضرت حلف الفضول ولو أدعى لمثله اليوم لأجبت) أي: لو يدعى إلى اجتماع الأمم، والاجتماع بين شعوب الأرض على نصرة الضعيف، والأخذ على يد الظالم الجائر البطاش لفعل ولأجاب صلى الله عليه وسلم، وكان بذلك قد شرع لنا أننا نتنادى ونتداعى لنصرة الضعيف مع أي إنسان يدعو إلى ذلك، فالإسلام يحرص على نصرة الضعيف، وزوال الظلم، وأداء الحقوق، وعدم أذية الخلق مؤمنين وغير مؤمنين، ولكن غير المؤمنين نطالبهم بالإسلام، فإن رفضوا فالجزية، فإن رفضوا فالسيف؛ لأن دين الله يجب أن يكون هو السيد وهو الشرع، وهو الحاكم في الأرض، ورايته هي الخفاقة دون سواها.
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [المؤمنون: ٧٠].
قال الله لهم: لم يكن به جنة، وهو أعلى من ذلك، وما كنا لنرسل رسولاً مجنوناً أو نبياً مجنوناً، فقد جاء بالحق ودحض به الباطل، وجاء بالقرآن وهو الحق من الحق، وجاء بالسنة بياناً للقرآن، وهي حق لشرح الحق، وجاء بدعوة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول، فقد جاء بالحق، ودعا إلى الحق، ونصر الحق، ورفع السيف لنصرة الحق ولمحاربة كل معاد للحق، ((بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ))، وأكثر هؤلاء الجاحدين والمسرفين والكافرين يكرهون الحق، ويبتعدون عن الحق، ويتمسكون بالباطل.
والباطل هو كل ما سوى الحق، فكل ما سوى الإسلام باطل، وكل ما سوى الحقيقة الإلهية باطل، وكل ما سوى الحقيقة النبوية باطل، وكل ما ليس شرعاً وليس ديناً حقاً فهو باطل في باطل، وإنما الحق كتاب الله وسنة رسول الله، وإنما الحق ما دعا إليه الله ورسوله، ودان به المسلمون.