تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم)
قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ٧١].
هؤلاء الذين لا يتبعون إلا الباطل، وسموا الباطل حقاً، والحق هنا هو اسم من أسماء الله، والحق هو كل ما دون الباطل، فلو اتبع الله تعالى أهواءهم ونزواتهم وأنزل القرآن حسب هواهم وحسب رغائبهم: ((لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ))، ولو كان فيهما آلهة لفسدتا، ولعلا بعضهم على بعض، ولو طلبوا أن يعطى الأغنياء وأن يذل الفقراء لفسدت الأرض، ولو نزل القرآن على حسب أهوائهم ونزواتهم لفسدت السماوات والأرض، وفسد نظام الكون، ونظام الحياة، ونظام الأحكام، ونظام الدولة، ولذلك فالحق لا ينطق به إلا الحق، والحق هو الله جل جلاله، وهو الذي أنزل الحق كتاباً، وأرسل الحق رسولاً، وزاد الحق بياناً بالسنة النبوية لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، ولذلك لا ينبغي أبداً للغوغاء وللمبطلين من الناس أن يستشاروا، فهنا جاءت نظم برلمانية يدعون إليها باسم الديمقراطية، فيجتمع فيها كل من هب ودب.
وقد حدث هذا في كثير من ديار الإسلام، فهم يتذاكرون: أنقول: دين الدولة الإسلام؟ فقال الأكثر: لا، فتركوا، وبهذا الاعتبار حلت الخمور، وحل الزنا، وانتشر الفساد، وكثر الربا، وكثرت معصية الله في الأرض، وعم الفساد البر والبحر؛ لأن هؤلاء أرادوا أن يخضعوا الحق لأهوائهم، والله لم يجعل الحق إلا إلى أهل الحق، والله لم يجعل الحق في الشورى إلا لأولي الأمر منكم، ومن هم أولوا الأمر؟ هم العلماء وحكام المسلمين العادلون.
وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]، ويقول: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] وأولو الأمر هم الذين يستنبطون، ولا يستنبط إلا عالم، ولا يستنبط إلا حاكم عالم، وأما أن تترك الأمور سبهللاً لكل جاهل، ولكل حيوان، ولكل من لا يستطيع أن يحكم في بيته مع زوجته ومع أولاده، فكيف نحكمه في رقاب شعب وأمة ودين وشرع؟! إن هي إلا الأباطيل، وإن هي إلا الأضاليل، وبذلك ضحك الاستعمار اليهودي والنصراني والشيوعي على عقول المسلمين، فأفسد برامجهم، وأفسد مدارسهم، وأفسد جامعاتهم، وأصبحوا يجرون خلف هذا الباطل ويقولون: حرية وديمقراطية.
وهكذا إذا كان هناك حيوان لا يكاد يميز بين كوعه من بوعه، وبين الحق والباطل، وبين المؤمن والكافر فإنهم يحضرونه فيما يسمونه بالبرلمان؛ ليعطي من الآراء ما هو ضد لله، وضد لرسول الله، وضد لكتاب الله، وضد لأحكام العدل وأحكام الحق، والله يقول عن هؤلاء وأمثالهم: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: ٧١]، وقد حدث، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماوات بطائراتها، فحتى في الأجواء يشربون الخمور ويفسدون مع الشابات ومع العجائز، فأفسدوا الأرض وأفسدوا السماء، ولكن هيهات فللباطل صولة ثم يضمحل، ويأبى الله إلا أن ينصر دينه وأن يرفع الحق وأعلامه، وهكذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها وهي على ذلك إلى يوم القيامة).
((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)) (من) اسم موصول تطلق على العاقل بانفراده، يقال: جاء الرجال، فتسأل أنت: من؟ فيقال لك: أحمد وعلي وأبو بكر، و (ما) اسم موصول يطلق على غير العاقل بانفراده، ويقال: جاء قطعان من الدواب والماشية، فتقول أنت: ما هي؟ فيقال لك: هي بقر وغنم وماشية، ولكن (من وما) إذا عمت فإنها تشمل العاقل وغير العاقل فتطلق (من) عليهما (وما) عليهما، والقرآن بهذا صريح في كثير من الآيات: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، فما هنا تطلق على العاقل وغير العاقل.
﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ﴾ [يونس: ٦٦] (من) هنا للعاقلين وغير العاقلين.
((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)) (من) هنا للعاقل وغير عاقل، من مدرك وواع وغير مدرك وغير عاقل.
قال تعالى: ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) الذكر هنا الشرف، يقول الله عن هؤلاء العرب الذين حاربوا نبي الله، وعن هؤلاء العرب الذين لا يزالون يعيشون بيننا ممن تنكروا لنبيهم ولدينهم ورجعوا القهقرى، فارتد من ارتد، وعصى من عصى، فألغوا الشريعة وألغوا الحكم وحكموا بغير ما أنزل الله.
((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ)) أتيناهم بشرفهم، والذكر هنا الشرف، وهكذا قال الله: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [الأنبياء: ١٠]، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤]، وإنه لشرف لك يا محمد ولقومك؛ لأنهم هم الذين كلفوا بفهم الرسالة، وبنشر الرسالة، وببذل الأرواح رخيصة في سبيل الرسالة، وهذا واقع التاريخ، فالنبوات نزلت على العرب على محمد سيدهم صلى الله عليه وسلم، فالذين قاموا معه هم المهاجرون والأنصار في مكة والمدينة الحرمين الشريفين، ثم في بقية جزيرة العرب، وذهب ﷺ للرفيق الأعلى والإسلام لم يخرج بعد عن جزيرة العرب، فخرج على يد العرب ابتداء من أبي بكر، ثم لقي ربه، ثم قام عمر فنشر الإسلام في العراق وفي الشام وفي مصر وفي فارس وفي المغرب، وهكذا خلال نصف قرن عم الإسلام الأرض من أقصى بلاد الصين شرقاً إلى أقصى بلاد الغرب غرباً، وقال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، فمن لم يكن كذلك لم يأمر بمعروف، ولم ينه عن منكر أو فعله، ولم يكن ذلك بناءً على الإيمان بالله، بل كان بفلسفات فارغة وبآراء باطلة، وكان بمذاهب وافدة يسمونها الاشتراكية والماسونية والوجودية والشيوعية مما أتى به اليهود، ودعا إليه أفراخ اليهود، فاستمسك به كذلك من ذل وأذل معه غيره بذلك، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، وتركوا القيادة المحمدية، وتركوا قيادة الأصحاب من الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وتركوا قوانينهم التي أتت بالحق ودعت للحق وكان فيها شرفهم، وكان فيه ذكرهم، فالله تعالى قرع هؤلاء: كيف تركوا القرآن وفيه شرفهم، وتركوا الإسلام وفيه ذكرهم وعزهم؟! ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) أعرضوا عن شرفهم، وعن ذكرهم، وعن التنويه بهم؛ جهلاً وضلالاً، وانتحروا وذبحوا أنفسهم فخسروا الدنيا والآخرة، على أن المسلمين في الإسلام سواسية، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولكن يبقى الحق ويبقى الشرف للداعية الأول ومن خلفه، فقد قال ﷺ لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لأن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، فمن هدى الله على يده إنساناً من كفر إلى إيمان، ومن عصيان إلى طاعة، ومن زندقة إلى يقين وإلى إيمان صادق، فللمطيع الأجر والثواب، ولمن علمه ولمن وجهه أجره وثوابه، (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزورها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).


الصفحة التالية
Icon