تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر)
قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٥].
قال ابن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: (ولو) هي لمنع ما بعدها البتة، فحيث جاءت (ولو) في القرآن أو في السنة المطهرة فهي للمنع الأبدي لما بعدها.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ)) أي: هؤلاء المشركين الجاحدين وهم على شركهم، ((وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ)) أزلنا ضرهم، وقد كان النبي ﷺ حاربهم فانتصر عليهم، وجازاهم بالجريمة الواحدة عذاباً أليماً، فغزاهم في غزوة بدر، وقتل من قتل وأسر من أسر، وأخذ أموالهم، ودخل مكة ظافراً منتصراً عزيزاً سيداً، فأخذ البلد وجمع الكافرين وأنذرهم وتهددهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم معاشر قريش؟ فقالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم) وإذا به يرحمهم ويشفق عليهم، ويعفو عنهم عفو القادر، وترك لهم أجل الإيمان والإسلام، ففر من فر، وأسلم من أسلم، وحسن إسلام من حسن، وعاد من فر فأسلم وحسن إسلامه، وأباح دماء أربعة عشرة إنساناً: ست من النساء وثمانية من الرجال، وقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، فالحرم لا يجير عاصياً.
وقد أكثروا من إيذاء المستضعفين من المؤمنين الذين بقوا تحت سلطانهم وأهلهم في مكة، فأذلوهم واستعبدوهم شيوخاً وشيخات وأطفالاً صغاراً وكباراً، حتى قتلوا من قتلوا، وأمرضوا من أمرضوا أمراضاً مزمنة، فدعا عليهم ﷺ وقال: (اللهم سنين كسني يوسف)، فأصيبوا بالجدب سنوات حتى اضطروا إلى أكل الكلاب وأكل الجيف، حتى ذهب إليه أبو سفيان فقال له: يا محمد! إنك تقول: أرسلت رحمة للناس، ونحن أرحامك وأهل بلدك وسدنة بيت الحرام، ادع الله تعالى أن يرفع ما بنا من ضر، فدعا لهم، فما زادهم ذلك إلا جحوداً، حتى مكنه الله من رقابهم ومن بلادهم فطهرها من الشرك والأوثان.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ))، والسورة مكية، وهكذا كانوا، فكشف عنهم بعض ذلك في الدنيا لا في الآخرة، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] ففي الدنيا قد يرحم الكافر إمهالاً؛ عساه أن يؤمن ويسلم، وعساه يوماً أن يقول: ربي الله.
((وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ)) أي: من قهر ومن جدب وقحط وذل واستعباد، ((لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ)) لتمادوا ولأصروا على كفرهم وطغيانهم وضلالهم وعمايتهم.
((يَعْمَهُونَ)) يتيهون في الأرض تيهاناً، فيفقدون البصيرة فلا يميزون حقاً من باطل، ولا ليلاً من نهار، ولا توحيداً من شرك، ولا إيماناً من كفر، وهكذا كان حالهم في الدنيا، فقد رحمهم رسول الله ﷺ أحياناً وعاقبهم أحياناً، وما زادتهم رحمته إلا طغياناً وفساداً إلى أن مكنه الله من رقابهم، وأباد خضراء من بقي منهم على الكفر، وبعد ذلك بقيت جزيرة العرب كلها مسلمة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد يئس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم)، فهذه بشرى بشر بها المصطفى منذ ١٤٠٠ عام أن الجزيرة العربية لن ترتد عن الإيمان، ولن تصبح يهودية ولا نصرانية، ولن تصبح مشركة يوماً من الأيام، وقد تكون هناك جهالات، وقد تكون هناك ضلالات، ولكن العلماء والدعاة ومن وفقهم الله يعلمونهم، ويرفعون جهلهم، ويزيلون ضلالهم تبعاً لأسوتهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، وهذا واجبهم في جزيرة العرب وغيرها من ديار الإسلام عامة، بل في الأرض كلها.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، ومن الأمر بالمعروف في الدرجة الأولى الدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى لا إله إلا الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.


الصفحة التالية
Icon