تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم)
قال الله عزة قدرته: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٦ - ٧٧].
لا يزال الله جل جلاله في هذه الآيات يسوق عذابهم ووعيدهم وتهديدهم فيما إذا بقوا مصرين على الكفر، وسادرين في الشرك، والكلام لهم وهو لأمثالهم كذلك متجدداً إلى يوم الدين.
ذكر جل جلاله أن هؤلاء بعد أن أرسل إليهم، وبعد أن بلغوا الدعوة، وبعد أن بقوا على الكفر والإصرار عليه، أخذهم الله بالعذاب الشديد، وأخذهم بالنقمة؛ لعلهم يرعوون، ولعلهم يتوبون، وإذا بهم يبقون على ما هم عليه، فلم يستكينوا ولم يذلوا لربهم، ولم يخشوا ربهم، ولم يمدوا أيديهم بالدعاء ضارعين داعين راجين، ولم يقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين.
وقد دعا عليهم ﷺ بسنين كسني يوسف، فقحطت الأرض، وأمسكت السماء غيثها وخيراتها، فجاعوا حتى جاء أبو سفيان كبيرهم يقول: يا محمد! إنك تزعم أنك أرسلت رحمة للعالمين، وهؤلاء ذوو أرحام قد قتلت رجالهم، وأجعت نساءهم، فادعُ الله لهم ليرفع عنهم ما هم فيه من بلاء، فدعا لهم، فرزقوا غيثاً مغيثاً، وخيراً عميماً، وإذا بهم ما زاداهم ذلك إلا كفراً وعناداً، ثم أسلم كبير نجد بعد أن أسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال فربطه في المسجد النبوي ثلاثة أيام، فكان عند صباح كل يوم يقف عليه ﷺ عندما يخرج لصلاة الصبح ويقول: (هيه يا ثمامة ما عندك؟ فيقول له: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعفُ على شاكر، وإن ترد المال فلك ما تريد)، وكرر ذلك في اليوم الثاني ثم اليوم الثالث، وهذا جواب ثمامة.
وإذا به في اليوم الثالث يطلق سراحه ﷺ ويعفو عنه، فيخرج الرجل فيغيب زمناً ثم يأتي إليه فيقول: مدّ يدك يا محمد! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولا والله يا رسول الله! لا يصل لقريش بعد اليوم حبة من القمح أو الحنطة من نجد، فأسلم ثمامة وأصبح من المجاهدين المنافحين المدافعين عن الإسلام ومن الصحابة المخلصين، وأمسك ميرته وأمسك حبه وأمسك حنطته على مكة، حتى ضاق بها المقام واشتد بها الجوع.
وهكذا عادوا مرة ثانية يستعطفون ويتوسلون إلى رسول الله ﷺ ليتوسط لهم إلى ثمامة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام ثمامة بأن يسمح بأن تذهب الحنطة والحب إلى أهل مكة، فما زادتهم هذه الشفقة والرحمة إلا كفراً وعناداً، فما استكانوا وما خشعوا وما ذلوا لله ولا آمنوا به، ثم لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يمدوا أيديهم لله راجين داعين تائبين من شركهم وكفرهم.
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٧] بقي هذا الإصرار، فكان عذاب الدنيا، ثم ماتوا فهلكوا ففتح الله عليهم باباً في جنهم ذا عذاب شديد.
هذا العذاب الذي كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها؛ ليذوقوا العذاب، فتح عليهم باباً من نقمته وباباً من عذابه المقيم الأبدي؛ لشركهم ولكفرهم، ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٧]، فبعد أن ابتلوا ووجدوا ما كانوا ينكرونه في حياتهم من البعث والنشور، ومن العذاب على الشرك والكفر، وجدوا أنفسهم في واقع ذلك، وإذا بهم يقذفون في جنهم مع العذاب المؤلم، ومع العذاب الشديد، وإذا بهم إذ ذاك يرون من ربهم ما لم يكن يخطر لهم ببال، وهم مشركون كافرون جاحدون، وإذا هم مبلسون من رحمة الله، أي: يائسون، فيئسوا من رحمته، ويئسوا من مغفرته؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فلا مغفرة للشرك، ولا مغفرة للكفر، ولا مغفرة للجحود، وبعد أن بعثوا هيهات الرجوع، فقد مضت الأيام في الدنيا، فلم ينتهزوا شبابهم، ولم ينتهزوا دنياهم فيتوبوا إلى الله يوماً، ويقولوا: ربنا اغفر لنا يوم الدين، وهكذا قد يئسوا من الرحمة، وسلموا لملائكة غلاظ شداد كالحي الوجوه، لا يعصون الله ما أمرهم، وهم مطيعون في كل ما أمر الله به؛ جزاءً وفاقاً للكفر والشرك الذي صنعه هؤلاء في دنياهم.
﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٧] أي: إذا هم في ذلك الباب وذلك العذاب الشديد مبلسون، أبلسوا أي: يئسوا، ولم يعد يخطر لهم ببال أن يرحموا، أو أن يستغفروا، أو أن يتوبوا؛ لأن الأمر أصبح أمر شهود وحضور، والإيمان لا يتم إلا في الدنيا إيماناً بالغيب، وإيماناً بتصديق الرسل، وإيماناً بكتب الله المرسلة على رسله، وأما وقد أصبح الأمر واقعاً فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.