تفسير قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه)
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٨ - ٨٩].
سلهم يا محمد مرة ثانية: من بيده ملكوت كل شيء؟ (ملكوت) أي: ملك، والتاء للمبالغة، كما يقال: بهموت وجبروت، قل من بيده التصرف في هذا الملك الأعظم؟ ومن الذي نظم هذا العالم: نظم ليله ونهاره، وصيفه وشتاءه، وربيعه وخريفه؟ ومن الذي رزق هؤلاء الخلق من إنسان ومن جن، ومن حيوان، ومن طير، ومن يمشي على أربع، أو يمشي على رجلين، أو يمشي على بطنه، ومنهم من يعيش فوق التراب، ومنهم من يعيش داخل البحار؟ فهذا التنظيم الدقيق في كل شيء من الذي صنعه؟ ومن الذي دبره؟ ومن الذي قام عليه؟ فكان
ﷺ الله.
قوله: (يجير) أي: يدفع ويحمي، فالذي يجير هو الله جل جلاله، فمن منعه الله من الناس فلا يخاف أحداً من الخلق، ومن حفظه الله لا يخاف مخلوقاً قط، فقد يقع من الأجواء وشاهق الجبال فتجده بقي حياً؛ لأن الله لا يزال يدافع عنه، ولم يأتِ وقت موته بعد، وقد يحصل الذي يحصل ويبقى حياً، ويبقى مرزوقاً، ويبقى قائماً، ويبقى مقتدراً بقدرة الله، وذكر التعبير هنا بما هو معروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
فقد كان عادة العرب أن يأتي إنسان فيدخل القبيلة الفلانية فيستجير بفلان فيكون في جواره وفي حمايته وفي وقايته وفي حفظه، فلا يجرؤ أحد أن يمسه بسوء، ولو فعل لبطش به وبكل ما يتصل به سيد القبيلة، ولا يمكن لغير سيدها أن يجير أحداً من الناس يدخل قبيلته؛ لأن ذلك فيه فضول عليه وعلى سلطانه وعلى رئاسته.
فإن حماه الله احتمى، ومن لم يحم ولم يدافع عليه فهيهات أن يستطيع أحد أن يحميه دون الله، فلن يكون هذا وما كان قط.
فلا يمكن أن يأتي إنسان مخلوق أياً كان إذا أراد الله عذاب شخص أو النقمة على شخص أن يأتي إنسان فيحمي ذاك من عذاب الله ويحميه من عقوبة الله، فلن يكون ذلك، ولا يفكر فيه مخلوق على الأرض لا كافر ولا مسلم، ولو فكروا فيه فليحموا أنفسهم من الموت.
﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٨] أي: إن كنتم كما تزعمون أنكم ذوو عقول مدبرة وأفكار سديدة ورأي مقبول، فافعلوا.
قوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٩].
فهم يقولون: لله، مرة ثانية، أي عادوا فقالوا: صاحب الملكوت ورب الخلق والتصرف المطلق والرزق والتنظيم هو الله وحده لا أحد معه.
﴿قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٩]، والسحر في الأصل معناه: التخييل، أي: كيف تتخيل عليكم الحقائق فتصبح خيالات وأوهاماً؟ وكيف جئتم بالأباطيل فتوهمتم صحتها وأحقيتها وليست كذلك، فكيف خدعتم عن عقولكم؟ وكيف خدعتم عن دينكم؟


الصفحة التالية
Icon