تفسير قوله تعالى: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)
وهكذا كان حالهم عندما أصبحوا في جهنم، ثم عادوا فقالوا -وقد طمعوا وقد سكت عنهم في الجواب-: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧] أي: أخذوا يدعون ربهم وأخذوا يضيفونه لأنفسهم؛ طمعاً بأن يعودوا للحياة.
أخذوا يطلبون وأخذوا يطمعون بأن يخرجوا من النار ويعودوا للدنيا وللحياة، وأنهم إن أعيدوا للحياة وأخرجوا من النار فإنهم سيعملون صالحاً، ولا يظلمون بشرك ولا غيره! وحيث قد اعترفتم بأنكم ضالون وبأنكم ظالمون فما عسى أن يفيدكم ذلك من بعد؟ وإذا بالله الكريم يأمر ملائكته أن يجيبوهم أو يجيبهم بنفسه جل جلاله والآية تدل على كلا المعنيين، قال تعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] أي: ابتعدوا، واخسأ كلمة زجر وردع في لغة العرب، فتردع وتزجر بها الكلاب، فقيل لهم: ابتعدوا واخسئوا واسكتوا فلا مجال للقول الآن منكم، فلا طمع ولا حياة أخرى بعد الحياة الفانية: الحياة الدنيا.
فقد جاءكم الأنبياء، ونزلت عليكم كتب الله، وأعطيتم الحياة للتفكير وللعمل وللعبادة فلم تفعلوا، فحري بكم إن عدتم إلى الدنيا ألا تفعلوها أيضاً، وهم قالوا ذلك متشككين، فقالوا مع كل ذلك: لعل، وقالوا كلمات تشتمل التنفيذ وعدم التنفيذ، والله قد كذبهم وأبعدهم، ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، قال مفسرو الآية: كان بين قولهم وبين قوله: اخسئوا أربعون عاماً، هذا وردت فيه آثار عن بعض الصحابة والتابعين، وهي تحتمل الصدق، ولم يرد فيها حديث.
فلما قيل لهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] سكتوا البتة وما عادوا يطلبون، ويئسوا وخابوا، وأصبح كلامهم نباحاً لا يخرج منهم إلا كما يخرج النباح من الكلاب، حيث خاطبهم الله جل جلاله بما يردع به الكلاب ويزجر به الكلاب، ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: ٢٦]، فقد جاءتهم فرصة الحياة، وأرسلت إليهم الرسل، وأنزلت إليهم الكتب، وبين لهم، وأعطوا من النطق ومن السمع ومن البصر ومن القلب ما يمكن أن يفهموا وأن يعوا به، فأعرضوا عن كل ذلك، واستهزءوا بالصالحين، وكفروا برب العالمين، وكذبوا نبي الله ورسول رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الجمهور من مفسري الآية: يا أيها الذين آمنوا! يا أيها الناس! وأنتم لا تزالون في الحياة افعلوا ما تمناه الكفار وهم في النار، فما دمتم أحياء فاعبدوا ربكم، وأطيعوا نبيكم، وافعلوا الخير لعلكم ترحمون، ولا تكونوا حتى إذا خرجتم من الدنيا وأنتم مقصرون في العبادة والطاعة فتطلبون وتدعون ما دعا به الكفار ورجوه، ولات حين مندم، ولا سبيل إلى الحياة بعد ذلك في دار الدنيا، والوقت شيء قد قطعهم وكان يمكنهم أن يقطعوه، فلم يفعلوا وهم يملكون حياتهم، ولا يزالون في دنياهم وهم يقدرون على ذلك ولم يفعلوا.