تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم)
قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٥].
أي: تأتون إلى هذا الشيء العظيم من البهتان والكذب والافتراء، فتلقونه بألسنتكم، يلقي بعضكم لبعض قولاً، ويقول سمعت عن عائشة كذا، وسمعت عن صفوان كذا، وقال الناس كذا، وتحدثوا بكذا، فهذا التلقي بالألسنة دون رؤية بعين، ودون تثبت، وفي شيء عظيم.
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ [النور: ١٥].
والأفواه جمع فاه، وهذا الجمع لا مفرد له من لفظه، فالمفرد هو فم، والأفواه جمع (فو)، تقول: نطق فوك، ورأيت فاك يتحدث، ونظرت إلى فيك وهو يتكلم ويتحدث، وهو من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء.
﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: ١٥].
الألسنة تنطق بشيء لا علم لها بحقيقته، وهل توجد مصيبة أعظم من أن يأتي الإنسان ويسمر ويلهو بأعراض المؤمنين، فكيف بأعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأعراض أمهات المؤمنين! هؤلاء الذين قالوا ما قالوا لم يزعم أحد منهم أن عينه رأت، ولم يزعم أحد منهم أنه اشتبه فيما يشك فيه، ولكن أحدهم تلقى قولاً من الآخر فتبادلوا القول والسماع، يقول: سمعت فلاناً يقول فقلت، وقال فلان فقلت؛ ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: ١٥].
نطقت الأفواه بشيء لا علم لكم به ولا يقين ولا ظن، إن هي إلا أوهام أشاعها المنافقون أعداء الإسلام، وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبتم تعيدونه وتذكرونه من غير تثبت: كيف يحل هذا؟ وكيف يجوز؟ ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا﴾ [النور: ١٥].
تظنون أن القول سائغ، وأن القول لا يكاد يمس شيئاً، ولكنه عظيم جداً، فهو طعن في رسول كريم هو سيد الأنبياء وخاتمهم، وطعن في أم من أمهات المؤمنين وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنطق بمثل هذا ليس هيناً في نفسه، بل هو عظيم عظيم، وهو كذلك عظيم عند الله.
كيف يبعث الله رسولاً لا عرض له؟ وكيف يزوجه بنساء غير عفيفات ولا طاهرات؟ وكيف تقبلتم هذا وتحدثتم فيه؟ وكيف استسهلتم تبادل القول فيه؟! وهذه سياط إلهية يعظ الله بها المؤمنين الأول، كما يعظ المؤمنين الذين يأتون بعدهم بألا يتكلموا على الأعراض لمجرد السماع، أي: لكل من الناس أم وزوجة، ولكل من الناس بنت، فمن الذي يهون عليه أن يسمع الفاحشة تذكر عن أمه، فإن ذكرت فمعنى ذلك أنه لقيط لا أب له، فهذا الذي لا تريده لنفسك، فكيف يقبله المغفلون في حق السيدة البرة الطاهرة، العالمة الصالحة، الغافلة عما أريد بها؟ فهذه قوارع إلهية، وهذا توبيخ إلهي لمن قال هذا القول من هؤلاء.
وأما النصارى والمنافقون فيقال: الشيء من معدنه لا يستغرب، فإن ما يعشون فيه من كفر وشرك هو أعظم بكثير مما زعموه، ولكن البلاء عندما يصدر مثل هذا من مثل حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ومن مثل ومسطح بن أثاثة، وكل هؤلاء رجال صالحون أطهار.
وقد كان حسان لسان رسول الله وسيفه المدافع، وكان الأخر رجلاً صالحاً من المهاجرين الأول، وحمنة هي أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش، فكيف يا هؤلاء الثلاثة وأنتم على صحبتكم وعلى دينكم يغركم المنافقون، ويتلاعبون بكم حتى تنطقوا بما تنطقون به؟! قوله: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا﴾ [النور: ١٥] أي: شيئاً سهلاً لا يكاد يؤذي أحداً، ليتذكر كل إنسان في نفسه لو طعنت أمه في شرفها أو زوجته أو بنته كيف سيكون حاله، فكيف والشرف شرف رسول الله، والعرض عرض رسول الله، والمطعونة أم من أمهات المؤمنين، وهي أحب إلينا من أمهاتنا وجداتنا، وكل ما يتعلق برسول الله ﷺ يجب أن يكون هكذا عند كل مؤمن.
في مسند أحمد، وأخرجه البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في جهنم سبعين خريفاً).
أي: إن أحدكم يا أيها الناس! ينطق بالكلمة لا يفهم لها معنى، ولا يلقي لها بالاً، ولا يهتم بها، ولكنها في نفس الأمر كلمة عظيمة، فيكون جزاؤها أن يهوي الإنسان في قعر جهنم سبعين خريفاً، أي سبعين عاماً، إذ لكل سنة خريف واحد، فيبقى يهوي في قعر جهنم سبعين سنة، ويعذب فيها نتيجة هذه الكلمة.
وطالما كان سلفنا الصالح يتحدثون متداعبين بكلام المزاح فيما يجوز فيه أن تكون المداعبة والمزاح، وإذا بأحدهم ينطق بكلمة يراها الحاضرون عظيمة وكبيرة، فمثلاً: كان جماعة من طلاب العلم يتجولون بين بساتين الأندلس ورياضها -أعادها الله دار إسلام بفضله وكرمه- وأخذت السماء تلقي رذاذاً ومطراً خفيفاً، فقال لهم أحدهم: إن الدباغ يرش جلوده، وهو يريد بذلك أن يتضاحك ويمزح، وإذا بالآخرين يقفون ويعبسون وجوههم، وقالوا: أتدري ما الذي قلت؟ لقد ارتددت عن الإسلام، فأصر على أنه كان يمزح، فاحتسبوا عليه، وما أتى الليل في ذلك اليوم إلا ورأسه مفصولة عن جسده.
ومن هنا فإن الطعن في عرض رسول الله ﷺ ليس كالطعن في غيره، ومن رحمة الله أنه اكتفى بجلد هؤلاء ثمانين جلدة، وإلا فالعقوبة أصبحت بعد ذلك القتل والردة.
وقد أجمع العلماء على هذا بعد أن نبه الله المؤمنين بهذا المسلسل من هذه الآيات الكريمة، ولذلك يقول الله بعد ذلك: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ١٧].