جلب منافعها، ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها.
وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد.
فنحن مؤمنون لجوازه عقلاً، وثبوته سمعاً، مثل سائر السمعيات.
تمييز:
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتدّ إليه قدرته ويكون في متناول يده، فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة، وتمكن من ناصيتها، واستعمال حيوانها وجمادها في مصلحته، ورقي أطوار التقدم في حياته، ولفقدان الحيوان- غير الإنسان (١) - هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته. فإدراك الحيوان فطري إلهامي يعطاه من أول الخلقة، والإنسان يعطى أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه، ويستمر في درجات التقدم.
وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل، وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه:
ذكر سليمان عليه السلام منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات- غير الإنسان- مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، وأشرفها الطائرة (٢)، فاقتصر على الطير تنبيهاً بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين:
عبر سليمان عليه السلام عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام ليتعظم بسلطان، ولا ليتطاول بفضل؛ فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أشد الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده.
وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية؛ ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي توخاه سليمان عليه السلام من المصلحة بإظهار العظمة.
ولذا لم يقل: "عَلمت". ولا:"لي" و"عندي كل شيء". ولم يقل"فضلي" فهو فضل من علمه وآتاه فضله به عمن سواه.

(١) قوله: "الحيوان غير الإنسان" باعتبار أن الإنسان حيوان ناطق، فهو من جنس الحيوان. فالحيوان جنس والإنسان نوع كما في التقسيم المنطقي.
(٢) الحيوانات الطائرة أفضل من الحيوانات الماشية؛ هذا موضع نظر.


الصفحة التالية
Icon