يشكل على ذلك مثل ما تقدم من الآيات في إنذار عشيرته الأقربين، وقومه العرب، لأنه ابتدأ بهما، لحكمة التدريج، وحق القريب، لا للتخصيص بدليل ما جاء من آيات التعميم.
إقتداء:
هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب الناس إليه، ثم من بعدهم على التدريج.
وعندما يقوم كل واحد منا بإرشاد أهله وأقرب الناس إليه، لا نلبث أن نرى الخير قد انتشر في الجميع: فمن الأُسَرِ تتركب الأمة؛ فعندما يعنى كل واحد بأسرته ترتقي الأمة كلها بارتقاء أسرها، كارتقاء أي كل بارتقاء أجزائه؛ فيكون المعتني بأسرته في الوقت نفسه معتنياً بأمته. وعندما يقصد بخدمة أسرته خدمة أمته يثاب ثواب خادم الجميع: أسرته بالفعل، وأمته بالقصد، أو أسرته مباشرة وأمته بواسطة، وكل هذا مما يثاب المرء شرعاً عليه.
إستطراد واستنباط:
لما كان العرب لم يأتهم نذير قبل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنص هذه الآية وغيرها، فهم في فترتهم (١) ناجون لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥].
ولقوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ [المائدة: ١٩]. وغيرهما، وكلها آيات وقواطع في نجاة أهل الفترة.
ولا يستثنى من ذلك إلاّ من جاء فيهم نص ثابت خاص: كعمرو بن لحي أول من سَيَّبَ السوائب، وبدل في شريعة إبراهيم وغير، وحلل للعرب وحرم.
فأبوا النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ناجيان بعموم هذه الأدلة.
ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه:
أن رجلًا قال للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: يا رسول الله، أين أبي؛ قال: «في النار». فلما قَفَّى (٢) الرجل دعاه، فقال: «إن أبي وأباك في النار» (٣)، لأنه خبر آحاد (٤)، فلا يعارض القواطع. وهو قابل للتأويل بحمل الأب على العم مجازاً، يحسنه المشاكلة اللفظية، ومناسبته لجبر خاطر الرجل، وذلك من رحمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكريم أخلاقه.
(٢) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (٤/ ٩٤ - مادة قفا): "أي ذهب مدلياً، وكأنه من القفا: أي أعطاه قفاه وظهره".
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٤٧، وأبو داود في السنة باب ١٧.
(٤) خبر الآحاد لا يفيد القطع بل الظن فقط، بعكس الحديث المتواتر الذي يفيد القطع.